من الذاكرة
|
يكتبها عبد اللطيف الفراتي
ثورة 10/11 ووضع البلاد
تحت طائلة حظر الجولان
تونس / الصواب / 27/04/2020
ثورة 17 ديسمبر 2010- 14/جانفي 2011، تعتبر ثورة متفردة من عدة نواح :
أولها أنها ثورة بلا قيادة ولا فكر
سابق ، ومن هنا ينزع عنها البعض صفة الثورية مقارنة بالثورة
الفرنسية ،أو الثورة البلشفية في روسيا ، أو حتى الثورة الخمينية في إيران، غير أن
رئيس الجمهورية الحالي قيس سعيد يعتبرها
ثورة تخرج عن المألوف atypique باعتبارها أول ثورة قامت في ظل
ثورة رقمية وإعلامية، نفخت في تحرك شعبي، اتسع بفضل الفايسبوك وبعض القنوات العابرة
للقارات ، كان ذلك في خلال نقاش جمعنا معه بحضور عميدة كلية العلوم القانونية
الدكتورة .نائلة بن شعبان ، و الأستاذ الصديق الأزهر القروي الشابي العميد الأسبق
للمحامين وأنا شخصيا ، في رحاب مكتب الأساتذة في الكلية .
ثانيها أنها ثورة
ندلعت دون أن تنقل السلطة، لا بصورة عنيفة
ولا حتى هادئة ، فغاب رئيس الجمهورية بن
علي ، وبقي الإطار الرسمي الإداري في مكانه ، وإن صاحب كل ذلك، تمظهران أو ثلاثة تمثلا في تحركين اثنين، في القصبة قيما فشل الثالث ، وفي تحرك أجهض في
محيط قبة المنزه ، حاولت أن تقيمه مجموعات من المثقفين ورجال الأعمال، وانتهت
القصبة 1 و2 بانسحاب حكومة محمد الغنوشي ، وقدوم حكومة الباجي قائد السبسي ، وهو
من الحرس القديم المخضرم بين عهدي بورقيبة وبن علي ، والوعد بإجراء انتخابات
تأسيسية ، وقيام ما يمكن أن يسمى بالجمعية العمومية وهي ترجمة سيئة من وجهة نظري لعبارة les états généraux ضمت لجنة ، كان شكلها الوزير
الأول محمد الغنوشي برئاسة عياض بن عاشور رجل القانون البارز ،استجابة لدعوة
الرابطة التونسية لحقوق الانسان قبل سقوط بن علي وهربه ، وضمت عدة عشرات من
المثقفين والمعارضين .
وثالتها أنها
ثورة ، أطلقت في العالم العربي ثورات مماثلة دون فكر أو قيادة أو تأطير، في مصر وسوريا وليبيا واليمن ، عدا ثورات مماثلة
أجهضت من البداية في المغرب والجزائر والعراق.
**
لعل الثورة
الوحيدة التي نجحت نسبيا من بين كل هذه الثورات العربية ، وأقامت مؤسسات
جديدة ، يمكن الاختلاف في تقييمها ، ولكنها تشتغل ، هي الثورة التونسية، وإن كانت لم تحقق الهدف الأصلي لكل ثورة ، أي رفع المستوى المعيشي للشعب ، كما حدث في
ثورات أوروبا الشرقية ، بل شهدت تدهورا في المستوى المعيشي للشعب .
ففي مصر التي
قال رئيسها آنذاك حسني مبارك ، أن مصر ليست تونس ، ولن تشهد ما شهدته تونس، ولكن
جرفه المد الشعبي بعد أسابيع قليلة، وأن كانت تلك الثورة انتكست ، فقد تم انتخاب
رئيس للدولة من الإخوان المسلمين ، لم يعرف كيف يسير بلاده ، فخرج ضده تمرد شعبي
استقطب عشرات الملايين ، ولكن جاء العسكر فقطعوا الطريق على الثورة والتمرد ، علما
وأن التمرد يعتبر مشروعا في القانون الدولي ، وفقا لما جاء في دستور الثورة
الفرنسية ، والعهد الدولي لحقوق الانسان ، وفي ليبيا التي كان معمر القذافي الذي ادعى بأنه أقام ثورة ستصمد أمام محاولات
الزعزعة الطفولية ، قتل بعد ذلك بأشهر عديدة، لتسقط بلاده في فوضى عارمة ، بعد أن
استولت ميليشيات إخوانية على السلطة في طرابلس ، فهرب البرلمان المنتخب إ شرعيا إلى
طبرق ، قبل أن يستولي على المقاليد المشير حفتر، ويشن بفضل تأييد مصري إماراتي على جانب كبير من
التراب الليبي ، و قبل أن تتدخل تركيا بمجموعات من المرتزقة السووريين للانقلاب على ما حققه المشير ، بمعاضدة الأسطول
التركي الغازي لحكومة السراج وميليشياتها ،
أما الثورة السورية المبدئية والطفولية ، والتي واجهها نظام الأسد بحمام دم ، فقد
انتهت بتدخل قطري تركي ، استعمل في العراق وسوريا ظاهرة جديدة متطرفة هي داعش ،
وقد عاضدت روسيا نظام الأسد ، بينما تواصل التدخل التركي بتمويل قطري ما أحال سوريا
إلى بلد مدمر ، وفي اليمن انتهت الثورة إلى تقسيم البلاد ، بين شيعة وراءهم طهران
وسنة الذين عاضدتهم السعودية والامارات بحرب تبدو بلا نهاية.
**
تونس إذن هي
الوحيدة التي استمرت ثورتها ، بفضل أمرين
اثنين : أولهما ذكاء التنظيم الاسلامي ، فيها باعتماد سياسة سياسية مرحلية ، تعتمد
التمكين التدريجي، بدل السيطرة الكاملة على السلطة كما فعل الإخوان في مصر ، فقام
تمرد شعبي ضد حكمهم قوامه عدة ملايين ، والبعض يقول عشرات الملايين ، سريعا ما
سرقه العسكر، وثانيهما مقاومة مجتمع مدني متمكن انتهى إلى تعبئة عامة في صيف 2013 ،
عرف راشد الغنوشي كيف يتعامل معها بدهاء، ولو بالتنازل المرحلي.
قبل نجاح
الثورة متمثلا بهروب بن علي ، بقطع النظر عما إذا كانت سيدي بوزيد هي التي أنجحت
الثور ، أو القصرين وخاصة تالة ، أو مظاهرة صفاقس الي يقال أنها زعزعت أركان الحكم
التونسي ، أو مظاهرة 14 جانفي في العاصمة التي انفضت قبل حلول موعد منع الجولان ،
أو عوامل خارجية أمريكية بالذات ، وجدت لها روافد تونسية في أعلى درجات الحكم ،
المهم أن الثورة نجحت سواء بدعم الجزيرة أو قطر، وبدعم الفايس بوك أو بدون ذلك.
**
مساء 14
جانفي كان حظر الجولان محترما ، ولولا ذلك الرجل الذي خرج في شارع الحبيب بورقيبة
صائحا "بن علي هرب " ، والذي يقال إنه كان مكلفا بمهمة ولم يمنعه أحد في
زمن منع الجولان .
يوم 14 وعلى
عكس المتوقع لزمت البيت تحت وطأة أزمة حساسية حادة ، وكنت أصاب بالعطس مئات المرات
في الساعة الواحدة ، وكنت أتابع عبر التلفزيون ، فعاليات المظاهرة ، عندما نبهتني
زوجتي ، إلى أن ابننا التقطته صور التلفزيون مع المتظاهرين.
مر يوم السبت
والأحد بين جدل قانوني ، من يخلف الرئيس
زين العابدين ، وبين عشية وضحاها أصبحنا وبتنا بين ثلاثة رؤساء، زين العابدين بن
علي ، ومحمد الغنوشي ، وفؤاد المبزع.
بقي الأمر
على حاله ، وعدا فرض منع الجولان وإعلان حالة الطوارئ ، لم يتغير شيء ، ولم يأت
كثيرا ذكر للثورة ، وأخذت الأشياء طريقها حتى جاءت القصبة 1 والقصبة 2 ، بينما
فشلت القصبة 3 ، وتبين أن وراء ذلك فروع الاتحاد العام التونسي للشغل الأفقية والعمودية ، بدفع من حزب العمال وحمة الهمامي ، ولم تظهر حركة النهضة على السطح
مطلقا ، وستكون هي المستفيد الأكبر من تلك الثورة ، وما يقال اليوم هو أن التوجه
الاسلامي ، وإن لم يشارك في الثورة في تلك الايام ربما حذرا ، فإن ما عاناه بين 1980 و2010 كان خميرة مناسبة للإستيلاء على
الثورة ، ولم يكن اليسار واليسار المتطرف والطفولي ، الذي لم تقل تضحياته عن النهضة ،
ليستفيد بسبب انقساماته وتذرره.
من هنا جاء
السؤال ، هل كانت ثورة ، ومن وجهة نظري مثل وجهة نظر السيد قيس سعيد كما رأينا أعلاه ، لعلها ثورة بمكونات غير
مألوفة ، في عصر جديد بمقومات جديدة،
ولذلك فإن من ينكر الثورة ، وبقطع النظر عن تقييم نتائجها ، يمكن اتهامه بقصر
النظر ، على أساس أن الثورة أمر واقع لا سبيل إلى نكرانه.
**
صباح الإثنين
السابع عشر من جانفي ، في حدود الثامنة
والنصف صباحا كنت في بيت الصديق السيد إسماعيل بولحية ، وكنت إذاك ، عنده لاستعراض
محتويات العدد الجديد لشهر جانفي من "مجلة المغرب الموحد" التي كان هو
صاحب امتيازها ومديرها وكنت رئيس تحريرها
غير المعلن تجنبا لرد فعل سلطة كانت تناصبني العداؤ ، كنت أبغي الحصول منه على
توقيعه لبدء سحب المجلة ، في مطبعة قرطاج ، وصاحبها السيد التيجاني الحداد ، زميلي في الدراسة والوزير الأسبق، وفيما كنا
نطلع معا على صفحات المجلة الأستاذ إسماعيل بولحية وأنا ، رن جرس تليفوني برنته
المحببة ، المأخوذة عن سنفونية موزار الأربعين ، نظرت في شاشة التليفون كانت
الساعة تشير إلى الثامنة والنصف ، وكان الطالب الهادي البكوش ، قبلت المكالمة ،
بادرني صباح الخير عبد اللطيف ، كانت الكلفة مرفوعة بيننا ، وإذ كنت أقول له دوما
السيد الوزير الأول ، فكان هو من جهته يناديني باسمي مجردا ، قال لي سي محمد يسلم
عليك، سألته : " شكون محمد ، أجابني سي محمد الغنوشي الوزير الأول ، كنت وما
زلت أكن احتراما شديدا للسيد محمد الغنوشي ، منذ بداية السبعينيات ، حيث تعرفت
عليه كأحد أهم المساعدين للسيد منصور معلى.
قال لي السيد
الهادي البكوش وكان التليفون مرفوع الصوت : لقد عيناك رئيسا مديرا عاما للتلفزيون
، أخذت بعض الوقت لأستفيق من المفاجأة ، قبل أن أجيب بأني لا أقبل هذه الخطة ، ألح
علي ولكني رفضت إطلاقا ، طلب مني مزيد التفكير على أن يعاود مخاطبتي بعد نصف ساعة
، فعلا جاءت مكالمته بعد نصف ساعة ، وأجبته في إصرار لم أغير موقفي ، لم أكن أبدا
رجل مسؤولية رسمية ، ثم إنه لا عهد لي بالتلفزيون ، واصل السيد الهادي البكوش :
نطلب منك إذن أن تشارك هذا المساء في برنامج عن الثورة غي التلفزيون ، وللواقع كنت متحمسا لها ، كما
سبق أن تحمست لتغيير السابع من نوفمبر قبل ذلك بثلاث وعشرين سنة ، وقبل أن أصاب بخيبة
أمل مرة ، وأسقط أحد ضحاياها، فعلا قبلت ،
وشاركت كان على البلاتو بالخصوص السيد البريقي الوزير لاحقا ووزير الشباب والرياضة،
في الحكومة التي شكلها قبل يوم أو يومين
السيد محمد الغنوشي.
كنت ما زلت
أجر إصابتي الشديدة بالحساسية ، وحرارتي مرتفعة ، ولكن أحسست بشيء من الراحة في
مناسبتين اثنتين يومها ، ففي مشاركة خارجية أولى : أشاد بوجودي على البلاتو الدكتور خالد شوكات، ووصفني بأستاذه الذي تعلم عنه الصحافة ، وفي
مناسبة ثانية ،وبمشاركة خارجية أيضا جاء الدور على الدكتور الهاشمي الحامدي ، الذي
أطال بمدحي معتبرا إياي الصحفي النزيه المحايد ، وكنا تعاملنا معا ، عندما انتدبته
لتنشيط صفحة طالبية نيابة عن الاسلاميين ، فيما تولى سليم الكراي تنشيط صفحة
طالبية أسبوعية عن اليسار.
غادرنا
البلاتو وفي نيتي التوجه إلى الشخص المكلف بتسليم رخص حرية الجولان في مبنى
التلفزيون بميتيال فيل ، ولكني وجدت في انتظاري شخصا قدم نفسه على أنه السيد "الهاني
"، قال : إن المدير العام السيد شوقي
العلوي في انظارك في مكتبه ، قادني للمكتب : كان بحق مكتبا فخما ، هل كان المدير
العام على علم بترشيحي مكانه ذلك الصباح ، أم لا ... لا أدري ، المهم رحب بي وجلست
أتحدث معه وأنا على أحر من الجمر ، فكنت أود المغادرة لأن الليل قد أرخى سدوله منذ
حين ، وأنا أعرف بالتجربة أن المرور زمن حظر التجوال مغامرة كنت أتخيلها غير
مأمونة ، حتى شاهدت ما شاهدت في هذه الأيام الأخيرة التي نعيشها، أطلقني المدير العام أو الرئيس المدير العام ، وعند
الباب تلقفني السيد " الهاني " قال لي : كان يمكن أن يكون غدا هذا
المكتب الفخم مكتبك ، ثم مررنا على مربض السيارات ، فأراني سيارة فخمة ، ليضيف كان
يمكن أن تكون هذه السايرة تحت ذمتك لو قبلت المسؤولية ، وبدا لي أن العرض الذي لم
أقبله ، سرى خبره كسيران النار في الهشيم
، لم يحرك في ذلك ساكنا ,
المهم طلبت
من مرافقي أن يدلني على حيث أستطيع أن أستخرج رخصة وقتية للعبور ، فوجدت باب
المكتب مغلقا ، وقيل لي إن الموظف قد غادر اعتقادا منه أن المشاركين في البرامج قد
غادروا كلهم ، ولم ينبهه أحد إلى أني بقيت لمقابلة المدير العام.
كان علي أحد
أمرين : أن أبقى على كرسي حتى الصباح ، أو أن أغامر بالذهاب بدون ترخيص ، من مبنى
التلفزيون إلى بيتي في أعالي النصر ، وكنت عدت إلى العطس الشديد ، وكان علي أن
أتناول دوائي لتخفيف الحالة ، غامرت وغادرت دون ترخيص ، كانت الشرطة قد اختفت
تماما، ولذلك لم تعترضني ولو دورية واحدة ووصلت إلى البيت وأنا أتصبب عرقا فما
الذي كان يحدث لي لو أمسكوني .
ولكن ستأتي
الايام بما لم يكن في الحسبان ، فقد قضيت ليلتين في مقر قناة نسمة في مجاهل رادس
، بدعوة من إلياس الغربي ، للمشاركة في
برامج تلفزيونية ، كان يديرها بجدارة
ومهنية ، وكان علينا شوقي الطبيب ومحمد التريكي وسفيان بن فرحات وهيثم المكي، وغيرهم ممن كانوا يؤثثون حصص متلاحقة حول الثورة
أن نبيت حتى الصباح على كراسي في غرفة
الاستقبال .