دراسات
|
عبد اللطيف
الفراتي
النظام
السياسي التونسي
هل هو الأمثل
،
وهل في حاجة إلى مراجعة ؟
تونس / الصواب /27/01/2016
بعد 51 سنة
عاشتها تونس تحت ظل دستور 1959 ، الذي يتفق خبراء القانون الدستوري بشأن تقدميته ،
لولا ما شابه من تجاوزات بقوانين اعتبرت غير دستورية مسخت صوته المشرقة ، ولم يكن هناك جهاز ينبه إلى انعدام
دستوريتها ، ولولا ما شابه كذلك من تعديلات انحرفت به عن طبيعته كدستور دولة
جمهورية ، حيث أقرت منذ سنة 1975 الرئاسة مدى الحياة ، ومنذ 1999 تمديد الولايات
الرئاسية مرة بعد أخرى ، بما يتناقض وروح التعديلات الدستورية للعام 1988 والتي
أقرت التجديد لولاية واحدة.
كما عاشت
البلاد طيلة تلك الفترة تحت ظل طريقة
انتخابية تقوم على التصويت الاغلبي بالقائمات ، التي تفضي إلى انتخاب القائمة
المحرزة على المرتبة الأولى على كل المقاعد في دائرتها ، بما مكن الحزب الحر
الدستوري سنة 1956 وسنة 1959 ، ثم الحزب
الاشتراكي الدستوري سنوات 1964 و1969 و1974 و1979 و1981 و1986 ، ثم التجمع الديمقراطي
الدستوري سنوات 1989 و 1994 و1999 و 2004 و 2009
من الإحراز على كل مقاعد البرلمان ، وإن كانت أدخلت جرعة من النسبية (
خارجية وليست داخلية (1) ) منذ انتخابات 1994 مكنت من تواجد عدد من " المعارضين " تحت
قبة البرلمان
فإن ذلك كان إصلاحا صوريا ، هذا بقطع النظر عما شاب كل الانتخابات التي جرت
بين 1959 و2009 من تزوير فاضح ، لعل أبرزه ذاك التزوير الذي حصل في انتخابات 1981
و 1989.
** دستور
الجمهورية الثانية وظروف صياغته
على إثر
الثورة وهروب الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي ، اختلفت الطبقة السياسية حول
أمرين اثنين :
أولهما : أن
يتم استمرار العمل بدستور 1959 ، بعد تعديله ، وإزالة ما علق به من شوائب ، وكانت
الحكومات المتعاقبة بعد 14 جانفي ، وكذلك جهات سياسية معينة منها بالخصوص الحزب
الديمقراطي التقدمي بزعامة أحمد نجيب الشابي تدفع في هذا الاتجاه ، ومن رأي هذا
الفريق أن يقوم مجلس النواب المنتخب سنة 2009، أي في عهد الرئيس السابق بتعديل
الدستور ، لإزالة الموانع التي كان يفرضها في اتجاه منع حرية الترشيح ..
وكان أحمد
نجيب الشابي هو المرشح الأبرز ليصبح رئيسا للجمهورية آنذاك ، وقد دفع هو وحزبه ثمنا باهظا لذلك
التوجه.
ثانيهما
: الذهاب بالثورة إلى أقصاها ، وحل
البرلمان القائم بغرفتيه ، وإلغاء دستور 1959 ، والدعوة لانتخاب مجلس تأسيسي يؤسس
لجمهورية ثانية اعتمادا على مقولة ، تقول
بأن الدستور الذي كان قائما لم يكن صالحا ، ولن يكون صالحا لفترة ثورية ، مختلفة
في أساليبها وأهدافها.
وإزاء تردد
السلطة القائمة مع حكومات محمد الغنوشي ،
قامت جهات متعددة ولكن بالأساس الجبهة الشعبية ، أو على الأصح حزب العمال ، والنهضة
، والزعامات الجهوية في اتحاد الشغل ،
بتعبئة واسعة ، فتم تنظيم القصبة 1 والقصبة 2 ، وتم فرض الاستقالة على رئيس
الحكومة محمد الغنوشي ، واستقدام الباجي
قائد السبسي كرئيس للوزراء ، الذي قبل مكرها كما أعلن عدة مرات ، بدعوة رئيس الجمهورية فؤاد المبزع الناخبين ، لانتخاب مجلس تأسيسي يصوغ دستورا في
ظرف عام من موعد انتخابه ، وهو أمر لم يتسن احترامه ، بالنظر إلى أن المجلس الذي
اعتبره المؤسسون سيد نفسه ، قد انحرف إلى
جهة التشريع ومراقبة الحكومة ، وقضى وقتا طويلا في تلك المهام مما شغله ، عن مهمته
التي انتخب من أجلها أي كتابة الدستور ، فقضى 3 سنوات ونيف بدل سنة لإنهاء مهمته
الأصلية التي انتخب من أجلها.
** ظروف
صياغة الدستور ، وتبعاته
تم ختم
الدستور في 27 جانفي 2014 ، ولكن ولادته كانت عسيرة ، ففي البداية كانت الأغلبية
النسبية التي تمتلكها وفقا لانتخابات 23 أكتوبر 2011 التأسيسية ، حركة حزب النهضة
، تعتقد أنه بإمكانها إدخال البلاد في بوتقة دينية ، وإقامة دولة غير مدنية ، لذلك
تم الاصطدام سريعا بين الأغلبية النسبية للنهضة ذات المنحى الديني ، والأغلبية
الفعلية للأحزاب المدنية بشأن الفصل الأول ، وأعلن رئيس المجلس مصطفى بن جعفر أحد
ثلاثي التحالف الحاكم الترويكا ، أن الفصل الأول من الدستور الذي تقترح فيه النهضة
أن يكون التشريع طبقا للشريعة ، لن يمر إلا على جثته ، وإذ تطور الجدال ، فإن
المأزق تم الخروج منه بمبادرة من الأستاذ راشد الغنوشي ، في رفض من صقور النهضة ،
وتمت العودة إلى الفصل الأول من دستور 1959 كما
تم تحريره وقتها ، باقتراح من الرئيس الراحل بورقيبة ، وللخروج من الأزمة
التي كانت قائمة بين إسلاميي ذلك العهد ، وفي مقدمتهم الشيخ الشاذلي النيفر، وأشباه اللائكيين من أنصار الدولة المدنية التي
لا يلعب فيها الدين دورا رئيسيا.(2)
غير أن الخلافات
لم تقف عند هذا الحد ، بل شملت مناحي أخرى ليس هذا مجال استعراضها ، غير أن
الخلافات تطورت ، فقد بدا أن النهضة تسعى سواء بنص الدستور والالتفاف على الفصل
الأول ، أو بالتسيير الحكومي أن تفرض ما أعلنه الأستاذ راشد الغنوشي من أن
"التدافع الاجتماعي " سيتم بواسطته " التمكين "، وبالتالي
الذهاب إلى مجتمع غير مدني ،،، غير أن تحركا واسعا حصل في صائفة 2013 غير
المعطيات:
فمن جهة تمت اغتيالات لم تسلم النهضة من الاتهام بالوقوف
وراءها ، كما جاء تحرك باردو ، وانسحاب أكثر من 60 نائبا مؤسسا من تحت قبة
البرلمان ، واعتصام الساحة ، والمظاهرات الجماهيرية ، لتدفع النهضة لحساب ما يزخر
به المجتمع من معارضة لتوجهها.
ومن جهة أخرى
جاءت أحداث مصر ، لتدفع بالخوف من المآل نفسه في صفوف قيادات
النهضة ، فقد خرج الملايين في
ميادين القاهرة و كل المدن المصرية ، في إطار "تمرد " واسع ضد قرارات
الرئيس المصري الإخواني محمد مرسي العياط ، والمطالبة بصرفه من الحكم وهو الذي كان
تم انتخابه بأغلبية قصيرة قبل سنة ، والتمرد وفقا لديباجة وثيقة حقوق الإنسان الأممية
كما في الدستور الأول والثاني للثورة الفرنسية ، يعتبر وسيلة مشروعة لتغيير الحكم
، غير أن التمرد المشروع ، التف عليه الجنرال عبد الفتاح السيسي ، وحوله إلى انقلاب عسكري ، أيدته في البداية قيادات المجتمع المدني المصري
قبل أن تنفض من حوله.
عنصران أديا
إلى أن تخفف النهضة من تصلبها ، وتلجأ إلى التهدئة ، ففي ذلك الإطار تم لقاء
"الشيخين " في باريس ، ولن نعرف قبل وقت قد يطول وقد يقصر ، من كان
المبادر ، وإن كانت دلائل كثيرة تشير إلى أن الأستاذ راشد الغنوشي ، كان يسعى
للخروج من المأزق ، وستدل دلائل كثيرة إلى أنه بات ميالا لتجاوز أزمة قد تودي
باستقرار البلاد وقد تدفعها إلى المجهول ، وقد تؤدي بالنهضة لخسارة مواقعها ، من
ذلك القبول بالدخول في الحوار الوطني بعد مقاطعته ، والقبول أيضا بتنازلات كبيرة
في نص الدستور ، تدفع به في اتجاه الدولة المدنية ، والمعايير الكونية التي
يعاديها الإخوان عادة.
وقد فرضت
القوى المدنية وبقبول بمرارة من طرف النهضة
، شروطا لتعديل الدستور تكاد تكون مستحيلة ، مما قد يؤبد المبادئ الأهم الخاصة بمدنية
الدولة وذلك على نطاقين اثنين :
أولهما ، ما
جاء في الفصل 144 من الباب الثامن والذي ينص على " أن كل مبادرة لتعديل
الدستور، تعرض من قبل رئيس مجلس نواب
الشعب على المحكمة الدستورية ، لإبداء الرأي في كونها لا تتعلق بما لا يجوز تعديله
حسبما هو مقرر بهذا الدستور"
وللذكر هنا
لا على سبيل الحصر ، فإن الفصل الأول من الدستور ينص في فقرته الأخيرة :"لا
يجوز تعديل هذا الفصل" الذي يهم
طبيعة النظام الجمهوري وعروبة لغة البلاد وإسلام الدولة .
ثانيهما أن
أي تعديل دستوري يحتاج إلى ثلثي أعضاء مجلس نواب الشعب، وهو أمر يتطلب وفاقا من
أكثر من حزب ممثل في البرلمان ، بحيث وطبقا للطريقة الانتخابية المعمول بها حاليا
فإنه يكاد يكون من المستحيل توفير ثلثي النواب بدون وفاق بين حزبين أو أكثر ،
وبالعودة إلى تجربة الانتخابين الاثنين السابقين في 2011 و2014 فإنه يبدو أنه من
الصعب جدا ، نيل أي حزب حتى الأغلبية
المطلقة أي نصف عدد النواب مع نائب واحد (109) ، فكيف بأغلبية الثلثين.
** الطريقة
الانتخابية الحالية والأهداف المرسومة
لم يكن
اختيار الطريقة المعمول بها حاليا صدفة ، بل لعله كان نتيجة تفكير طويل من اللجنة
التي ترأسها الخبير الدستوري والأستاذ الجامعي عياض بن عاشور.
ومن بين طرق
التصويت المختلفة ، تم اختيار اللجنة على
طريقة الاقتراع بالنسبية و أعلى البقايا ، وقد أفرزت في حينه أي في خريف 2014 على نتائج مكنت نداء تونس ( قبل أن ينقسم
سياسيا ويبقى عل قوته الفعلية برلمانيا)، من 86 مقعدا في مجلس نواب الشعب و مكنت حركة
النهضة من 68 مقعدا ، وباعتبار أن المجلس يتركب من 217 نائبا فإن أغلبية الثلثين
تبلغ 145 صوتا ، وبالتالي فإن تحالف نداء تونس والنهضة بتشكيله 154 صوتا كاف في حد
ذاته لنيل الثلثين ، غير أن الإرادة السياسية ارتأت أن يشمل التحالف أو الائتلاف
الحكومي حزبين آخرين ، أي الوطني الحر 15
صوتا وآفاق 8 أصوات أي مجموع 177 صوتا ، وهو
ما يشكل أغلبية مريحة جدا ، ليس فقط أغلبية مطلقة 109 أصوات بل أغلبية معززة
بالثلثين وهي 145 صوتا.
وللمقارنة
فإن تلك الانتخابات لو تمت بالتصويت الأغلبي على القائمات، الذي كان معتمدا طيلة فترة الجمهورية الأولى بين
1956 و 1909 لأفرزت 130 مقعدا لنداء تونس ، و 87 مقعدا لحركة النهضة ، ولخرجت بقية الأحزاب جميعها بدون أي مقعد (3) أي بمعدل ما بين 70 و75 في المائة من
المقاعد لحزب نداء تونس ، وهو ما لا يمكنه من أغلبية الثلثين التي تبلغ 145 مقعدا.
وإذا كان
اعتماد أي طريقة انتخابية لا يتعارض مع الديمقراطية ، فإنه ليس بريئا ، بل يستهدف
توازنات سياسية معينة ، بالنظر إلى خدمة تلك التوازنات ، وسواء كان الأمر باعتماد
التصويت الأغلبي على القائمات أو بصورة فردية.
، اعتماد طريقة التصويت على القائمات بالنسبية
وبأعلى البقايا ، ( وليس بأعلى المتوسطات التي كان يمكن أن تعطي نتائج مغايرة) ،
كانوا في معرفة من أمرهم وإدراك ، بأنه لن تكون هناك أغلبية لحزب واحد ، فضلا عن
أن تكون أغلبية معززة.
والمجلس
التأسيسي نفسه الذي استحسن هذه الطريقة للتصويت ، خوفا من النهضة ، التي بلغت في
فترة من الفترات أسفل القاع لدى الرأي
العام ، خشيت من أن يقع سحقها ، ففضلت الطريقة التي أعطتها سنة 2011 أولوية في
المجلس التأسيسي ، وبذلك تحافظ على وجود معقول في البرلمان بعد انتخابات مقررة
لخريف 2014.
وبهذه
الطريقة في التصويت ( التصويت على القائمات
بالنسبية مع أعلى البقايا) يمكن ضمان
عدة أشياء في نفس الوقت :
-
تمثيل متعدد ومتقارب غالبا
-
بروز حزبين رئيسيين ، ( النداء والنهضة في
هذه الحالة)
-
الحفاظ على التوازنات السياسية ، فليس ممكنا
تصور السقوط لا في الدولة العلمانية ، ولا
في الدولة الدينية ، عبر استحالة تعديل الدستور بأغلبية الثلثين ، كما كان يحصل
التلاعب بالنص الدستوري خاصة في فترة حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي ، ولا الرجوع عن كونية حقوق
الإنسان.
** الإيجابيات
والسلبيات
تلك ولا شك إيجابيات مهمة ، وضامنة لاستقرا المسار ،
وعدم السقوط في أي تطرف مهما كانت جهته ، باعتبار التوجه الذي ذهب فيه المؤسسون ،
نتيجة تفاهمات فرضها واقع سنة 2013/2014 ، بعد أخذ ورد حول نمط المجتمع ، والدولة
العلمانية والدولة الدينية ، ومكانة الشريعة في التشريع ، وقضية الهوية التي قفزت
للمقام الأول في وقت من الأوقات.
ولكن السلبي هو ما تم الذهاب إليه ، من اعتبار الدستور
التونسي للجمهورية الثانية دستور مغلق ، أي لا يقبل التعديل لا من أمام ولا من خلف
، إلا باتفاق مجتمعي يفترض توفر ثلثي النواب ، وفي الواقع الحالي فإن حتى اتفاق
نداء تونس والنهضة ، إن كان كافيا عدديا فإنه غير كاف سياسيا للإقدام على أي تعديل
كان.
(1)
الجرعة الداخلية تتمثل في أن يكون التصويت
ونتائجه ضمن العدد المحدد لأعضاء المجلس النيابي جميعهم كأن تفوز القائمة صاحبة
المرتبة الأولى بعدد معين من المقاعد ويوزع الباقي بالنسبية وفقا لعدد
الأصوات التي حصلت عليها كل قائمة ، أما الجرعة الخارجية فتتمثل في توزيع كل
المقاعد على القائمات المحزة على المرتبة الأولى ، ويحدد عدد معين من المقاعد
مسبقا لتوزيعه بالنسبية على القائمات التي لم تفز في إطار نظام التصويت الأغلبي
على القائمات.
(2)
نص الفصل الأول كما ورد في دستور 2014 وهو
نفس النص في دستور 1959: تونس دولة حرة
مستقلة ذات سيادة الإسلام دينها والعربية لغتها والجمهورية نظامها.
(3)
انظر بكل هدوء في مدونة الصواب بتاريخ
18/10/2014 ( مع تصرف وتصحيح) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق