سانحة
|
يكتبها عبد اللطيف الفراتي
واحد بعد آخر ..
الشاذلي القليبي يغيبه الموت
فيترك فراغا كبيرا في الساحتين
الثقافية والسياسية
تونس / الصواب / 13/05/2020
مما يزيد من لوعة الحسرة والفراق ، أن يـــموت رجل مثل الشاذلي القليبي ،
ولا نستطيع مرافقته إلى مثواه الأخير، في هذا الزمن السيء بكل المقاييس ، مثلما
حصل لي قبل أربعين يوما ، عند وفاة صهري زوج ابنتي الكبرى ، على صغر سنه نسبيا،
فلا نستطيع مرافقته إلى مثواه الأخير,,
نفس الإحساس ونفس الظروف ، أن يموت
قريب على صغر سنه هو هشام المراكشي ،
ونفتقده فلا نلتقيه حتى ميتا بطعم حاد
للمرارة ، مصيبة كبرى ، وأن يموت عملاق مثل الشاذلي القليبي ، مصيبة بطعم آخر في
مرارته في الحلق ولا نتمكن من تشييعه .
كان الشاذلي القليبي يملأ الساحة ،
بعلمه وهدوئه ، ودماثة أخلاقه ، وكفاءته وتفانيه في خدمة الصالح العام ، بدون ضجيج
ولا ادعاء.
منذ أن جاء من فرنسا حاملا للتبريز في
اللغة العربية وآدابها، وهو في عمل دؤوب لفائدة بلاده، ولفائدة الأمة العربية جمعاء ، والانسانية
كلها.
أقتربت منه كثيرا ، وإذ ليس غريبا أن
أحمل له تقديرا بلا حدود ، فلن أكون مدعيا إذ أقول إنه كان يحمل هو نفس الشعور
تجاهي ، لم يكن يفصح عن ذلك ، ولكني كنت أستشف ذلك منه شخصيا ، ومما كان ينقله لي
أقرب المقربين إليه وخاصة أحمد الهرقام ومحمد المغربي .
وحتى نعرف معدن الرجل بلا رتوش سأتوقف
، عند أربع محطات تبين عمق فكر ، وأخلاق
الرجل:
أولها في السبعينيات من القرن الماضي ،
وكنت صحفيا شابا، ولكني كنت لسبب ما أحوز على رضا عدد من المسؤولين وكبار القوم ،
وفي نفس الوقت على استهجان بعضهم وفي كثير من الأحيان رضا واستهجان نفس المسؤولين
، في أحد الأيام ولم أكن أحمل أية مسؤولية ، لا في صحيفة الصباح ، ولا في المجتمع
المدني وخاصة جمعية الصحفيين التي توليت فيها مسؤوليات عديدة ، قبل أن أصبح رئيسا
لها، دعتني كاتبة السيد الشاذلي القليبي إلى مكتبه ،وكان بيننا في جريدة الصباح والوزارة مائة متر ، بين نهج علي باش
حانبة ، ونهج الجزائر ، دخلت مباشرة إلى مكتبه ، حيث وجدته مضطربا ، فكان قد صدر
أمر باحتجاز جريدة تونس هبدو، استدعاني ولم أكن أحمل صفة رسمية ليقول لي : لست
مسؤولا عن إيقاف الجردة ، وأنت أول من تعرف أنني ضد النيل من حرية التعبير ،
وسأسعى جاهدا للرجوع في هذا القرار ، فهمت الرسالة ، وبلغتها على أنها معلومة من
عندي ، وخف جو احتقان ساد يومها ، وكان له الفضل في رفع القرار.
وثانيها وهو حديث عهد بالأمانة العامة لجامعة الدول
العربية في أواخر السبعينات ، عندما دعاني
إلى مكتبه ، كان أمامه مقال للدكتور كلوفيس مقصود ، وهو كاتب وسياسي لبناني مرموق
، كان كتب مقالا رائعا في صحيفة النهار العربي والدولي ، التي كنت مراسلا لها في
تونس ، طلب مني الشاذلي القليبي أن أسعى بصفة غير رسمية ، للاتصال برئيس التحرير
أيامها عبد الكريم أبو النصر ، وأنظم معه استقدام الدكتور مقصود إلى تونس، من مقره في بيروت ، لمقابلة في إطار التكتم مع أمين عام الجامعة
العربية ، وفعلا تم ترتيب الأمور ، ووصل الدكتور كلوفيس مقصود إلى تونس في طي
الكتمان ، وانتظرته بسيارتي أمي 8 الزرقاء الصغير ، في المطار ، ورافقته إلى مقر الجامعة
العربية في شارع خيرالدين باشا، أوصلته إلى الطابق السادس وانسحبت إلى مكتب أحد
الأصدقاء الكثيرين بمقر الجامعة ، دون أن أنسى تنبيه السكريتيرية الخاصة بالأمين
العام إلى حيث أنا متواجد ، دامت المقابلة ساعة ونيف ، ثم تمت دعوتي لاصطحاب
الدكتور كلوفيس مقصود إلى فندق أفريكا، حيث كنت حجزت له " سويت"، صاحبت
الدكتور للفندق ، ولم يحدثني بشيء ، قدرت تحفظه ، أوصلته حتى الاستقبال واطمأننت
إلى أنه تسلم مفاتيح غرفته، عشية نفس اليوم صدر عن مكتب الأمين العام ، قرار بتعيين الدكتور كلوفيس مقصود سفيرا
مندوبا للجامعة العربية في الامم المتحدة ، وكان أفضل سفير للعرب في المنتظم
الأممي على مدى 10 سنوات ، بصوته الصادح وتحاليله المقنعة وقدراته الخارقة على
التواصل، ولن أطيال في الحديث عن فراسة الشاذلي القليبي في اختيار المساعدين المقتدرين
، في الإدارة التونسية ، ولكن سأتوقف عند من كان له فضل اختيارهم ، وهو أمين عام
للحامعة الغربية ، ومنهم حمادي الصيد كسفير للجامعة في باريس ، حيث أمكن له
بعلاقاته الواسعة وفصاحته وسيطرته على أعقد الملفات ، أن يعطي للقضية العربية بعدا
لم تكن له سابقة ، وثالثة الأثافي عندما
عين أحمد الهرقام سفيرا للجامعة العربية لدي ديوان الأمم المتحدة في جنيف ، حيث
يتم التحضير لأهم القرارات التي تهم الصراع العربي الاسرائيلي، رافق ذلك إدارة
إعلامية نشيطة في المقر بتونس بمحمد المغربي وعبدالله عمامي واللبناني وليد شميط ،
وقد تفطن الشاذلي القليبي وهو رجل الثقافة والإعلام ، إلى الدور البارز لكليهما في
تشكيل رأي عام مساند للقضايا العربية.
وثالث موقف شهادة هو أني وكنت في 1979
حديث عهد بالمسؤولية في جمعية الصحفيين ، عندما دعاني يوما ، وسألني عن مقر
الجمعية ، وكان يراها " بالعين الكبيرة " كما يقول مثلنا الوطني ، وهو
الذي تم استدعاؤه لمقرات نقابات وجمعيات الصحفيين، للمحاضرة في نيويورك وباريس والقاهرة ، ورجاني
أن أتدبر مقرا لائقا للجمعية ، على أن تتولى وزارة الثقافة والاعلام تمويل تكاليف
الكراء والتأثيث ، وقبل يوم من مغادرته للوزارة ، ليتولى الأمانة العامة للجامعة
العربية ، سلمني شخصيا وباسم الجمعية ، صكا بمبلغ الكراء والتأثيث ، بعد أن كنت قد
قدمت فاتورة ، في تلك التكاليف ، وكانت تلك أول مرة تنتصب فيها الجمعية في مقر
لائق في نهج النمسا في قلب العاصمة.
ولن أطيل أكثر ولكني سأذكر أن الشاذلي
القليبي ، كان هو محرروكاتب الخطب الرسمية للرئيس بورقيبة ، وكان تأثيره كبيرا
فيها ، ولعل أبرزها ذلك الخطاب ، الذي أعلن فيه بورقيبة ،عن أنه لا " يرى
مانعا في قيام أحزاب غير الحزب الحاكم ، وهو نص تاريخي باعتبار ظروف ذلك الزمن في
1980/1981 ، تم تصوره في الصيغة المقبولة من الرئيس بورقيبة ، بالتعاون بين
الشاذلي القليبي ومحمد مزالي الوزير الأول آنذاك.
وخلاصة القول ، أن الشاذلي القليبي لم
يكن أقل من مؤسسة قائمة الذات بشخصه وهدوئه وسلامة سريرته ووطنيته ونجاعته.