عالميات
|
يكتبه عبد اللطيف الفراتي
فرنسا التي تعيش فوق إمكانياتها
في عين الإعصار
تونس / 11/12/2018
اليوم لا يستطيع أحد أن يتنبأ بما
سيكون عليه الحال في فرنسا وخاصة في باريس
يوم السبت المقبل ، وهل إن السترات الصفراء ستتجند لاستكمال ما بدأته من تخريب لا
فقط للمقدرات الفرنسية ، بل لسمعة فرنسا العالية كدولة متقدمة تتمتع بمجتمع مدني
عالي القدر والمقدار ، خاصة في ظل العملية الارهابية في سترازبورغ .
بعد خطاب الرئيس ماكرون مساء الاثنين
، وجزء التهديد (العصا ) وجزء التنازلات ( الجزرة ) ، وجزء المجاملة والاعتذار عما
سبق أن بدر منه من "تعالي " ، المفروض أن تهدأ الأمور ، وينصرف
الفرنسيون للإعداد للأعياد المجيدة ، عيد
ميلاد المسيح ، ورأس السنة ، ولكن الحذر واجب ، والقيادات الفرنسية تضع يدها على
قلبها خوفا من احتمالات انفلات جديد.
التنازلات التي قدمها الرئيس ماكرون
كبيرة تقدر بما بين 10 و15 مليار يورو، تتمثل في نقص في الموارد ، أو نفقات لم يكن
محسوب لها حساب في الميزانية ، من شأنها أن تدفع الدولة الفرنسية لزيادة التداين (
104 في المائة حاليا من الناتج) للمقارنة بتونس 72 في المائة من الناتج ، وخاصة أن
ترهن المشاريع الإصلاحية التي خطط لها الرئيس الفرنسي ، للخروج بالدولة الفرنسية عنق الزجاجة الذي
تعاني منه منذ 40 سنة ، ففرنسا بعكس
ألمانيا وبريطانيا العظمى وحتى إيطاليا وإسبانيا عصية على الإصلاح .
فرنسا بعد السنوات المجيدة الوفيرة
(1945/1975) التي حققت فيها نسب نمو عالية ، مكنت من فتح أبواب الجنة الأرضية l’état
providence لمواطنيها، أخذت مثل
الكثير من الدول الغربية تمر بفترة انحسار لطيب العيش ووراء ذلك سببان اثنان في
نظرنا :
أولهما ، أن الهبة السماوية التي كانت
متمثلة في استغلال خيرات البلدان المولى عليها ، والتي استقلت في سنوات الخمسين
والستين ، قد أخذت في النضوب ، فقد ارتفعت أسعار البترول والفوسفاط وبقية المواد
الخام التي كانت تنالها تلك البلدان بسعر
التراب من مستعمراتها السابقة ، فاهتزت
التوازنات .
وثانيا السياسات السخية التي اتبعتها
حكومات اشتراكية ، غير عابئة بالحقائق الاقتصادية ، فقد خفض الرئيس ميتران في
بداية عهده سن التقاعد من 65 إلى 60 سنة وكان لذلك تأثير سيء على الصناديق
الاجتماعية التي اضطرت ميزانية الدولة لإسعافها فضلا عن هبوط في انتاجية العمل ،
في وقت ارتفع فيه مؤمل الحياة ، وقامت الحكومة الاشتراكية بتأميم المؤسسات المالية
فانهار الوضع الاقتصادي ، وأمام هذا الوضع
الديماغوجي الذي رحبت به أغلبية الشعب الفرنسي ، فأعادت انتخاب ميتران
لولاية ثانية ، اضطر هو نفسه لوضع حد لسياساته الاقتصادية الشعبوية ، وصرف رئيس
حكومته موروا وعين مكانه لوران فابيوس
المتسم بالاعتدال في توجهاته الاشتراكية ، غير أن دق مسمار الرحمة في
الاقتصاد الفرنسي ، جاء في عهد رئيس حكومة التعايش التي ترأسها الاشتراكي الآخر
جوسبين ، الذي أقدم على تخفيض ساعات العمل
من 40 ساعة في الاسبوع إلى 35 ساعة ، ومنذ ذلك الحين اختل توازن الميزان التجاري
الفرنسي ، الذي كان يسجل فائضا كبيرا ، فانهارت الصادرات نتيجة قلة القدرة التنافسية ، واختل كل شيء وتبع
ذلك اختلال موازنة الدولة المالية ، والاضطرار إلى اللجوء للتداين إلى حد بلوغ حجم
الدين 104 في المائة إلى الناتج ، وارتهان مستقبل الأجيال اللاحقة ، إضافة إلى عجز
الاقتصاد الفرنسي الذي كان في قمة ازدهاره حتى العام 1980 على خلق الكفاية من
الثروة الكفيلة ، باستصفاء حجم معقول للاستثمارات ، ما أدى لتفاقم بطالة تحولت إلى
وضع هيكلي ، كما العجز عن توفير رفاهة تعود عليها الفرنسيون وجاءت قرارات خلال
الأربعين سنة الأخيرة لتكسر عودها.
**
في هذا الظرف جاء انتخاب الرئيس
ماكرون قبل عام ونصفا ، والذي وعد بتقويم حالة الاقتصاد الفرنسي على مدى 5 سنوات ،
باستعمال أدوات معروفة تحتاج إلى تضحيات وصبر غير أن ما فاته ، هو أن الشعب الفرنسي ليس كمثال الشعب الألماني
صبرا وجلدا ، وأنه عصي على الإصلاح تماما كشعبنا التونسي وبقية الشعوب المتوسطية ،
ومن هنا جاءت حركة السترات الصفراء ، واضطر الرئيس ماكرون لتنازلات مؤلمة ،
والتراجع عن إصلاحاته في العمق بالاستجابة إلى طلبات على المدى القصير ، ترهن برنامجا
طموحا على المدى المتوسط والطويل ، وإبقاء فرنسا في وضعها السيء ، الذي تتدحرج
"بفضله " من خامس قوة عالمية إلى ما دون ذلك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق