سانحة
|
يكتبها عبد
اللطيف الفراتي
محمد المغربي
.. انسحب في هدوء ، كما عاش في هدوء
تونس /
الصواب /21/12/2016
كانت تلك
أيام باردة مثل هذه الأيام في ديسمبر 1965،
عندما طلبت من إدارة الإذاعة والتلفزيون ترخيصا لكتابة سلسلة مقالات عن الافتتاح
المبرمج لقناة التلفزيون التونسية ، كان
أيامها محمد مزالي الوزير الأول لاحقا هو المدير العام ، انتظرت وشاهدت الترخيصات
تتوالى لبقية الصحف الصادرة في تونس ، والريبورتاجات تنشر ، ولا حياة لمن تنادي
فصحيفة الصباح التي كانت الأولى منذ ذلك الحين توزيعا ليست لا في العير ولا في النفير ، فلا هي
حكومية ولا هي حزبية ( الحزب الاشتراكي الدستوري الذي يحمل اسمه الجديد منذ بضعة
أسابيع ، بعد التخلي عن اسمه التاريخي الحزب الحر الدستوري التونسي ) وهي لا تستحق
أن تعامل من السلطة حزبية ولا حكومية على قدم المساواة .
في يوم من
تلك الأيام وقد بدأ البث التجريبي ، قبل 6
أشهر على ما أذكر عن الافتتاح الرسمي ، وقد أصابني اليأس ، خاطلني تليفونيا
المازري شقير وكان يحتل منصبا مهما إلى جانب محمد مزالي في جهاز الإذاعة والتليفزيون
، ومكنني من ترخيص للقيام بعمل تحقيق على هذا الجهاز السحري أيامها الذي كانت
سبقته في البث على تونس العاصمة منذ 1960 التلفزة الإيطالية بمناسبة ألعاب روما
الأولمبية.
سألته إن كان
بإمكاني أن أبقى أسبوعا كاملا بين العاملين ، أسجل ملاحظاتي فمكنني من ذلك.كانت كل
الصحف التونسية قد نالت قصب السبق ، وكان علي أن أحفر بين نيرونات الدماغ لأقدم
شيئا جديدا ، وكانت الصحافة الجديدة في البلدان المتقدمة وقتها ، قد أصابها فيروس ما يسمى بالفيتشر ، وهو عبارة عن أسلوب
قصصي يعتور المقال الصحفي،
وعقدت العزم
على أن أغلف سبع مقالات مع الهوامش بهذا الصنف الجديد على الأقل علينا من الكتابة
الصحفية,
كان مبرمجا
لي أن أبدأ الزيارة يوم اثنين أي اليوم الأول من الأسبوع ، وأبقى اليوم كاملا من
الصباح حتى نهاية الإرسال ، ربما في العاشرة ليلا أو العاشرة والنصف لا أذكر.
تم تكليف شخص معين بمرافقتي ، في ترحالي بين الأقسام ،
وكان التلفزيون أيامها يبث على المباشر ، وحتى الأعمال الدرامية يجري تمثيلها على
الهواء.
صباح الإثنين
تقدمت إلى المكلف بمرافقتي وكان مساعدا
أول لمدير التلفزيون حسن العكروت أطال الله عمره ، لم يكن ذلك الشاب المهذب البشوش
، سوى محمد المغربي ، منذ ذلك اليوم
ارتبطت معه بصداقة كلمة حلوة لهذا وأخرى لذاك ، لا يغضب أبدا ، رغم ثقل المسؤولية وطيدة
مستمرة ،.
رجل مهذب
واسع الاطلاع له جواب على كل سؤال ، تقول أيامها أنه عاش طيلة حياته بين
استوديوهات القنوات التلفزيونية ، لا يهدأ كالنحلة المتنقلة بين الزهور الفواحة ،
على ثقل مسؤولية المباشر ، في وقت كان فيه كل شيء تحت رقابة مشددة ، خاصة بعد
مؤامرة 1962 .
، وبعد مؤتمر
بنزرت الذي كبس على عنق الصحافة والعاملين فيها.
لازمني أو
لعلي لازمته طيلة أسبوع ، لم أكتب حرفا ، وكان ذلك موضع استغراب ، ففي اعتقادهم
أني جئت لأتحدث عنهم وأطنب وأشيد ، ودعته
آخر يوم في مهمتي وفي الترخيص الذي منح لي للنفاد للمبنى الكبير ، الذي بات تحت
حراسة مشددة منذ 1962، وكان آخر من ودعت معه عبد الرزاق الحمامي المتخصص وقتها في
إخراج الأعمال الدرامية، وكان يستعد لتقديم ما يقال له رواية أيامها أي عمل مسرحي
، كما ودعت مذيعة الربط نزيهة التي لم تكن
تسمى المغربي والتي أعتقد أنها ستتزوج من محمد المغربي بعد أسابيع أو أشهر ويستقرا
في شقة صغيرة على مقربة من مبنى الاذاعة والتلفزيون فوق سينما الكليبير وراء
المونوبري.
اكتشف
الشاذلي القليبي وزير الثقافة والاعلام أطال
الله عمره محمد المغربي ، فاتخذه مساعدا له في مهمات عديدة ، ولقد كانت صداقتنا
وما اقام بيننا من ثقة متبادلة وإعجاب ، سببا ليدعوني كثيرا من المرات لطاولة غداء
أو عشاء ، مما كان يقيمه لصحفيين أو أدباء عرب أو أجانب ، يمتعهم فيها بحديثه
وبثقافته الواسعة عربية وفرنسية ، وكان جد مقنعا ، وأذكر وفي فترة معينة ، بعد أن
أصبح الرئيس بورقيبة رئيسا مدى الحياة وأصابته شيخوخة وأمراض كثيرة ، كثيرا ما يسأل عن الخلافة ، فيجيب بأن أسرة
بورقيبة يعيش أفرادها طويلا وطويلا جدا ، ولا شيء يدعو للاعتقاد بأن بورقيبة سيموت
غدا وستطرح مسألة الخلافة قريبا.
وكان يبدو
مقنعا ولعله تداول عليه كثير من كبار الصحفيين الفرنسيين والمشارقة ، فكان يغمرهم
بلطفه ، وبعضهم على شيخوخته المتقدمة ما زال ينتج البرامج الحوارية في القناة
البرلمانية الفرنسية.
لم يكن
الشاذلي القليبي ليستغنى عن خبرته وخصاله الانسانية ، ولذلك انتدبه كمساعد له خلال
العقد الذي قضاه بين 1980 و1990 على رأس الأمانة العامة للجامعة العربية ، وكان خالد
البعباع ( أردني فلسطيني ) بمثابة الناطق
الرسمي للجامعة العربية ، ووليد شميط ( المثقف اللبناني والسينمائي المعروف ) مكلف
بجانب آخر ، فيما إن محمد المغربي كان هو وأحد الهرقام أقرب الناس إلى الشاذلي
القليبي تعبيرا عن سياسات الأمين العام وبالتالي جامعة الدول العربية ، وكان غسان
ســــــــــــلامة ( المثقف اللبناني والسفير الأسبق في باريس والأمين العام
المساعد هو رسميا الجهة المتحدثة باسم الجامعة، وبالنظر لثقة الشاذلي القليبي في
محمد المغربي وأحمد الهرقام ( الذي انتقل لاحقا كسفير للجامعة في جنيف ) فإنه
اعتمدهما في استقبال الضيوف ، وكانت الجامعة العربية في تونس كخلية نحل ، لما دفع
فيها أمينها العام من حركية ، كانت فاقدة لها قبلا وفقدتها بعدا على إثر نقلها
للقاهرة بتواطئ بين عراق صدام حسين وكويت جابر الأحمد ، قبل 3 أو أربعة أشهر من
اجتياح صدام حسين للكويت ، وبعد أسابيع من وصفه لجابر الأحمد بأنه سيد العرب.
وما زلت أذكر
أنا ومحمد المغربي وكثيرون كيف خرج أمير الكويت الحالي وكان وزيرا للخارجية أيامها
ووزير خارجية العراق طارق عزيز ( ميخائيل يوحنا ) وقد تشابكت أيديهما ليعلنا نقل جامعة الدول
العربية من تونس إلى القاهرة ، وأبقى على قناعتي أن الأمين العام لم يكن له أن
يستقيل من منصبه حتى آخر ولايته ، بل لعله كان لبلاده أن تعيد ترشيحه ، لولا قصر
نظر حكام تونس أيامها.
وفي عودة إلى
محمد المغربي ، فإنه عاد لخدمة بلاده فتولى من المناصب البعض ، كما تولى الكتابة
العامة للمجلس الأعلى للإتصال في أفضل الأيام التي عرفها ، وعرف تنظيرا متقدما
برئاسة محمد بن اسماعيل ، والركن الركين أمينه العام محمد المغربي ، وبعكس
الكثيرين ممن كنت أعتبرهم من الأصدقاء ، ممن أداروا لي ظهر المجن خلال فترة غضب السلطة
علي خلال التسعينيات والعشر سنوات الأولى من القرن الحالي ، فإن محمد المغربي ،
وقلة قليلة ، لم يتنكر ، فكنت أزوره في مكتبه ، وكان يزورني في بيتي ، وكانت آخر
زيارة له عندما جاء خصيصا ليقدم لي ولزوجتي صورة لزوجته نزيهة المغربي التي كم
زارتنا في البيت معه ، والتي ارتبطت مع زوجتي بصداقة حميمة ، ومن خصاله أنه بقي
وفيا لها كما يكون الرجال ( الرجال ) فلم يتزوج بعدها رغم مرور 15 سنة على وفاتها
، ولم يلوث ذكراها ، كما يكون عليه الأزواج الأوفياء .
ذلك هو محمد
المغربي ، رجل قيم ومبادئ ، صديق حتى الثمالة ، وفي كما ينبغي أن يكون الوفاء ،
رجل كما ينبغي أن يكون الرجل الرجل الحق .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق