Citation

رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب، ومن جاء بأفضل من قولنا قبلناه. الإمام الشافعي

الاثنين، 23 مايو 2016

اقتصاديات : تونس ومغامراتها البترولية


اقتصاديات
يكتبها عبد اللطيف الفراتي
قصة البترول في تونس
من فائض في الانتاج ورخاء وقتي
إلى أكبر عبء على ميزانية الدولة
** الفرص الضائعة مع الجزائر وليبيا
تونس /  الصواب / 22/05/2016
في تمام الرابعة إلا الربع ظهرا  بتوقيت غرينيتش من يوم الجمعة 29 أفريل ، بلغ سعر برميل البترول الخام لبحر الشمال  ( حوالي 159 ليترا)47.63 دولار ، مسجلا بذلك أعلى سعر منذ نوفمبر 2015.
وكانت أسعار البترول قد تدحرجت إلى أدنى مستوياتها منذ زمن طويل وانحدرت إلى ما تحت 35 دولار في الأسابيع الأولى من سنة 2016 .
** الصدمات البترولية 1973 و1981/1983
 وبعد الصدمة البترولية الأولى عام 1973 التي رافقت حرب رمضان 1973 بين مصر وإسرائيل ، والتي رفعت البرميل إلى 10 أو 11 دولارا ، وأدخلت الهلع في الغرب ، جاءت الصدمة الثانية بين 1981 و1983 عندما ارتفع سعر البرميل إلى ما فوق 30 دولارا وبلغ أوجه عند 40 دولارا ، واعتبر ارتفاع سعر البرميل إلى 65 دولارا كارثة في العام1991 ، ومع الأزمة المالية / الاقتصادية  الحادة  في سنة 1998 شارف سعر البرميل المائة و الأربعين دولارا ، فيما استقر في حدود 120 دولارا في 2012/2013 ، لتبدأ رحلة الانهيار بعد ذلك ويأخذ في التراجع حتى الوصول إلى أقل من 35 دولارا في بدايات العام الحالي.



https://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/thumb/0/0f/Brent_Spot_monthly.svg/320px-Brent_Spot_monthly.svg.png
Variation mensuelle des prix du pétrole (Brent), endollars constant et courant, de mai 1987 à avril 2011. Source: Energy Information Administration, Département de l'Énergie des États-Unis.
L'expression « troisième choc pétrolier » est utilisée par certains 

وبالمقارنة فإن هذه القيمة لسعر برميل البترول ، تعتبر ليس بالمعلن اسميا ، بل باعتبار انزلاق القيمة للعملة ، ونسبة التضخم ، أقل من ذلك بكثير ، بمرور الزمن، ولذلك اصطلح على استعمال كلمة الدولار الثابت أي الذي تبقى قيمته الشرائية للسلع والخدمات بمستوى معين لا يتغير ، باعتبار انخفاض قيمة العملة.
وبالمقارنة فإن الدينار التونسي كان يساوي سنة 1966 ، 0.4 دولا ، و كان يساوي في بداية التسعينيات  دولارا واحدا وهو إذ يساوي اليوم نصف دولار فإن ذلك يعني أن قيمة الدينار التونسي تساوي اليوم أقل من ربع الدولار  كما كان في سنة 1966 ونصف قيمته سنة 1990 ، غير أن الدولار نفسه انخفضت قيمته بالقياس إلى  قدرته الشرائية ، ويقول الخبراء إن سعر برميل البترول اليوم لا يختلف كثيرا عما كان عليه قيمته قبل الصدمة البترولية الأولى سنة 1970، رغم أنه ارتفع إلى 47 دولارا في الأيام الأخيرة ، غير أن ذلك السعر لا يكاد يصل إلى ثلث قيمة البرميل سنة 2008/2009 في عز أزمة "السور برايم " ، وأن تلك القيمة اليوم لا تشكل إلا الثلث بالكاد لما كانت عليه قيمة البرميل سنة 2013.
ولكن السؤال المطروح وبإلحاح ، هو ما هي أسباب هذا الانهيار في أسعار البترول ، وما هي تداعيتها سواء على الدول المنتجة أو المستهلكة؟
** السؤال المحير ؟
وبالرغم من أن توريد البترول  في الدول المستهلكة ، كان يستنزف جزء كبيرا من مواردها ، وكان يرفع كلفة سلعها سواء المخصصة لسوقها الداخلية أو للتصدير ، فإن تلك الدول ورغم تدني فاتورة توريد البترول لم تستفد ، من هذا الوضع الجديد ، ولم تحقق نسب نمو عالية كما كان منتظرا ، بل بقيت للبعض منها في حالة ركود وانكماش ، لا يجد له الباحثون الاقتصاديون تفسيرا ، واكتفى البنك الدولي و صندوق النقد الدولي والمنظمة الأوروبية للتنمية OCDE   بملاحظة ذلك وتسجيله.
وعلى العكس من ذلك فإن الدول المنتجة والمصدرة للبترول على الرغم من تكتلها وتشكيلها لكارتل قوي فيما بينها ، فإنها تضررت بشكل متفاوت من انخفاض سعر برميل البترول  ، ولعل  البلدان الأكثر تضررا هي الجزائر وليبيا ونيجيريا وفنزويلا  و أنجولا ، وخاصة روسيا التي شهت مواردها من بيع البترول تذوب ، كما الثلج في يوم ساخن ، وإذ حافظت دول الخليج  على موقع قدم ثابت ، فذلك ليس بسبب مواردها الحالية من بيع بترولها ، بل نتيجة لجلوسها على مدخرات وفيرة  ، احتفظت بها من أيام الوفرة ، فيما إن دولا مثل السعودية التي تعتمد في ميزانيتها على البترول بالأساس ، اضطرت لتسجيل عجز في ميزانيتها وذلك للمرة الثانية بمائة ألف مليار  دولار، والوضع مماثل في قطر ، فيما إن الكويت والإمارات بدت في وضع أفضل ، لاهتمامهما على مدى عقود بادخار جانب من الموارد ليوم تحتاج "للفلس الأبيض في اليوم الأسود.
** التأثيرات السياسية وانتهاء الاستعلاء
 في ظل نقص الموارد
ويبدو الوضع في أسوء حالاته في كل من نيجيريا وفنزويلا ، حيث عم الفقر ، وانقطع التزويد ، وبات الناس في ضنك شديد ، بعد أن انهار سعر البترول إلى الثلث مما كان عليه قبل عامين أو ثلاثة ، فيما إن الجزائر تعض على أصابعها لاستعجالها سداد كل ديونها كلها  ، وهي خطوة اعتبرت في حينه طائشة ، ودلت على قلة حكمة ، وتهور ، واستعلاء في غير محله ، ولما كان لكل شيء ثمن يدفع ، فإن الحكومة الجزائرية تبدو اليوم في وضع تسعى فيع لترطيب أجواء علاقاتها مع جيرانها  وفتح أبواب التصالح ، وهو ما اضطرت له في الثمانينات وبداية التسعينات مع تدهور أسعار البترول آنذاك ، وضغط ذلك عليها ، وهي ونيجيريا وفنزويلا تعمد كل منها للتخفيف على موازنات تلك الدول من السخاء المفرط في التعويض ، وسياسات الدعم لإسكات الأصوات المحتجة ، فيما أخذت حكومة فنزويلا اليسارية إلى " ترك الصلف الذي اشتهرت به " في معاملاتها مع جيرانها والدول الكبرى.
وفي تصريحات رسمية أنجولية  فإن السعر الأدنى المحتمل لسعر برميل البترول لا ينبغي أن يقل عن ثمانين دولارا ، وهو ما تعتقد إيران أيضا في ضرورته ، وهي التي ما إن خرجت من العقوبات الدولية التي كانت مفروضة عليها ، حتى وجدت نفسها وهي التي كانت تؤمل أن ينقذها بترولها من أزمة خانقة تعيشها من عدة سنوات ، في مواجهة كساد في بيع بترولها ، مضافا إلى ذلك أسعار شديدة الهبوط للبرميل الواحد ، في وقت ترفع فيه كل من السعودية وروسيا لأسباب مختلفة حجم إنتاجها البترولي ، السعودية بقصد مضايقة جارتها الإيرانية والحفاظ قدر الإمكان من حجم مواردها ، وروسيا لتحقيق حجم مداخيل عالية ، تمكنها من الحفاظ على مرتبتها دوليا ، ومواجهة حرب مع سوريا ضد معارضي بشار الأسد لا قبل لها بها وتستنزف طاقاتها ، في ما لا يوجد حاليا أمل في نهاية قريبة لتلك الحرب ، أمام إصرار الرئيس السوري على البقاء في الحكم ، ومحاربة كل مناوئيه سواء من الدواعش أو النصرة من المتطرفين الإسلاميين ، أو من الثوار العلمانيين والمدنيين غالبا.
** تونس في هذا الخضم
وتبقى تونس في كل هذا  في مواجهة عجز طاقي كبير ، يستنزف إمكانياتها  ويقوم متحديا كل برامجها ، ويمكن القول إنه عندما جاءت الصدمة البترولية الأولى سنة 1973 كانت البلاد محققة الاكتفاء الذات بل وفائضا مهما مما دفعها للدخول في منظمة البلدان العربية المصدرة للنفط ، وأمكنها ليس فقط مواجهة عتو أسعار تضاعفت ثلاث أو أربع مرات ، بفضل إنتاج غزير نسبيا  عبر حقل البرمة في الجنوب التونسي في ما يعتبر اليوم ولاية تطاوين على مشارف الحدود الجزائرية، ثم عبر الحقل البحري عشتروت في عرض مياه صفاقس وعدة حقول صغيرة أخرى في أماكن متفرقة من البلاد.
غير أن البلاد بنظر قصير ، واعتقاد رسمي بأن الحنفية البترولية دائمة ، أقدمت على هدر كبير ، تمثل في اعتماد أسعار بيع داخلية متدنية إرضاء للشعب ، ما استنفد قبل الأوان مخزونا ضعيفا في حد ذاته وغير متجدد ، وإذ جاءت الصدمة البترولية الثانية في سنة 1983 فارتفعت الأسعار للبرميل في السوق العالمية بشكل غير متوقع ولا مسبوق ، فقد واصلت حكومات تلك الفترة سياساتها المتهورة ، ما جعل تونس تصل سريعا إلى مستوى من الإنتاج لا يغطي بداية  ومنذ 1986 سوى نصف احتياجاتها المتزايدة ، سواء بحكم تطور طلبات الصناعة والفلاحة أو تطور طلبات أسطول سيارات ونقل عمومي في قمة تزايده ، وإذ أخذ الانتاج النفطي الوطني في التناقص بحكم تقلص الحقول المتاحة ، وعدم اكتشاف حقول جديدة مؤثرة مثل "البرمة " و " عشتروت " ، أخذ الطلب في التصاعد ، مما أثر سلبا على الميزان الطاقي ، خصوصا بعد اتخاذ خطوتين سلبيتين في السبعينيات :
**الأخطاء القاتلة
أولهما تنازل تونس على حقها من الصحراء لفائدة الجزائر ، وخسارة جزء من أرضها التاريخية بحثا عن السلم مع الجزائر بأي ثمن ، ويتحمل مسؤولية ذاك الرئيس الجزائري الأسبق بومدين والرئيس الجزائري الحالي عبد العزيز بوتفليقة الذي كان آنذاك وزيرا للخارجية ، ومن الجانب التونسي وفي غياب بورقيبة الذي كان يعالج في باريس ،  كلا من رئيس الحكومة الباهي الأدغم ووزير الخارجية الحبيب بورقيبة الابن ، ومجلس نيابي مرر اتفاقا أعرج لم يقف ضده سوى نائب واحد هو علي المرزوقي.
وثانيهما إصرار تونسي  كان وراءه رئيس الحكومة الهادي نويرة ، على عدم اقتسام  إنتاج الجرف القاري في مياه الجنوب التونسي من البترول مع ليبيا ، بإشارة من خبراء تونسيين كان من رأيهم أن ذلك الجرف هو ملك تونسي ، وإصرار على الذهاب لمحكمة العدل الدولية في لاهاي ، وقد أفتت  تلك المحكمة بأن ذلك الجرف تعود ملكيته إلى ليبيا وحدها وطار العصفور.
وفي تلك الحالتين فقد فوتت تونس على نفسها ، فرصة الحصول على حنفية بترولية لا تنضب ، فقد ظهر لاحقا أن الجزء الذي تنازلت عنه تونس للجزائر من صحرائها كان عبارة عن إسفنجة مبللة بالكثير من البترول ، في ما إن الجرف القاري ، كان معروفا من قبل أنه يعج وما زال بكميات بترولية ضخمة ، كان يمكن اقتسامها لولا تعنت الحكومات التونسية ، وإصرارها على "الكل أو بلاش".
ولذلك فإن المخططين التونسيين تنبهوا أمام هذا الوضع منذ كتابة المذكرة التوجيهية للمخطط إلى أن بين ثلاث تحديات كبرى تواجه تونس ، هناك التحدي الطاقي ، وأنه ينبغي اتخاذ القرارات المناسبة حتى لا تفاجأ  البلد بوضع يأكل فيه البترول بأسعاره المتصاعدة الأخضر واليابس ، ونبهت المذكرة  إلى أنه أمام تقلص الجانب الانتاجي الداخلي من النفط ، لا بد من اتباع سياسة حازمة بالنسبة للأسعار في سوق الاستهلاك الداخلي ، حتى يخف ضغط الهدر أمام أسعار منخفضة حقيقة  في إطار سياسة شعبوية ، وحتى لا يثقل كاهل ميزانية الدولة عن طريق تعويض ودعم غير مبرر.
** أكبر الأعباء على الميزانية هو دعم  المواد النفطية
و أمام  مواصلة دفن الرأس في التراب  كما النعامة ، بات التعويض للبترول أثقل باب في الموازنة خاصة بعد الصدمة في الأسعار سنتي 2008/ 2009  وإلى الصدمة الثانية في 2013 ، عندما وصلت الأسعار للبرميل ما بين 120 و140 دولارا ، وإذ خف الضغط بانخفاض أسعار البرميل في 2015/2016 حتى الوصول إلى 30 دولارا أو أكثر بقليل ، فإن تقلص قيمة الدينار المستمرة جعلت سعر البرميل داخليا يبقى مرتفعا ، وتعتبر اليوم  تونس البلد الذي تنخفض فيه أسعار البنزين والمازوت إلى أقصى حد بين دول العالم بحوالي  0.84  دولار  للتر  الواحد ، وهو  السعر الأكثر تهاودا  في العالم باستثناء الدول المنتجة في الخليج وليبيا والجزائر وفنزويلا ونيجيريا .
وإذ تم تخفيض بعشرين مليما في أول هذا العام في سعر البنزين و50 مليما في سعر المازوت ، فإن استمرار تراجع الدينار قياسا إلى العملات الأجنبية ، لم يمكن فعلا الحكومة من تحقيق أي اقتصاد في نفقات الدعم للمواد النفطية  ، إلا إذا اعتبرنا العودة إلى حقيقة الأسعار (؟) بالنسبة للبترول المستهلك في الصناعة ، والنقل الثقيل ، وهما البابان اللذان كانا يمثلان الجزء الأكبر من نفقات الدعم للنفط ، الذي يمثل بدوره الجزء الأكبر من نفقات الدعم والتعويض والتي كانت تمثل 17 في المائة من حجم الميزانية العامة للدولة.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق