اقتصاديات
|
يكتبها عبد
اللطيف الفراتي
وحصل المحظور
،،
وصعدنا كما كان متوقعا
للهاوية السحيقة
تونس /
الصواب / 22/04/2017
ماذا يعني
انهيار الدينار التونسي ؟ والمرشح لمزيد الانهيار.
سنتوقف عند ثلاث
محطات في محاولة فهم ما جرى ومحاولة استشفاف كيفية الخروج من عنق الزجاجة.
**
إحداث عملة
وطنية تم اختيار اسم الدينار لها في سنة 1958 ، كان بهدف استكمال السيادة الوطنية
، وعندما أقدم الجنرال ديغول في نفس السنة على تخفيض قيمة الفرنك الفرنسي بنصيحة
من وزير ماليته بيناي ، في السنة الموالية أبقت تونس على قيمة عملتها الوليدة التي
كان وراء بعثها رجلان هما الهادي نويرة و منصور معلى.
في سنة 1965
وأمام أزمة اقتصادية خانقة ، اضطر الوزير المتعدد الحقائب أحمد بن صالح إلى تخفيض في قيمة العملة التونسية بنسبة 25 في
المائة ، وذلك بقصد دفع
الصادرات وتنشيط السياحة الوليدة ، ورفع ثمن الواردات لتحقيق توازن الميزان
التجاري وميزان المدفوعات.
أعقب ذلك
أزمة سياسية حادة ، فقد أصدر اتحاد الشغل وكان أيامها بزعامة الحبيب عاشور ، الذي كان رفقة فرحات
حشاد وعبد العزيز بوراوي ومحمد كريم وغيرهم المؤسسين الاوائل لنقابة وطنية ، أصدر
بيانا يندد فيه بهذا التخفيض ويطالب بالتعويض للطبقة الشغيلة عن ما أصاب طاقتها
الشرائية من تدهور نتيجة هذا التخفيض ، كنت أيامها أشتغل كسكرتير تحرير ليلي في
جريدة الصباح ، أي أني أتمتع بحرية مطلقة في النشر من عدمه ، عندما جاءني الصادق
بسباس الموظف آنذاك في الاتحاد بعد أن اشتغل لمدة سنوات في جريدة الصباح ، تلقفت
منه البيان ونشرته واختصت به الجريدة دون غيرها فلم يكن أحد يجرؤ أيامها ، قامت
زوبعة أولا لمضمون البيان وثانيا لنشره ، وكان مفترضا أن أطرد من عملي ، لولا
الوقفة الشجاعة للحبيب شيخ روحه مدير الجريدة ، وعبد الجليل دمق نائب رئيس
التحرير.
بعدها تم
افتعال قضية للحبيب عاشور ووضع في السجن بتهم واهية ، وكان لنا أن نقف إلى جانبه ،
في المحاكمات التي اتهم فيها ، في تحد للسلطة ، ومن كان يستطيع وقتها أطرد الجانب
الأعظم من القيادة النقابية ، وأسندت الأمانة العامة للنقابي العريق النوري
البودالي في انتظار انعقاد مؤتمر لا شرعي انتخب البشير بللاغة وكان واليا لا علاقة
له بالعمل النقابي في منصب الأمين العام .
في سنة 1966
كانت زيارتي الأولى للولايات المتحدة ، كان الدينار التونسي يساوي 2 دولار ونصفا ،
وأذكر أننا في مدينة سيدر رابيدس البشير طوال من جريدة العمل في ذلك الحين ، وأنا تمت
استضافتنا على عجل من طرف عزالدين الشريف (آزي) بالنسبة للأمريكان ، وهو الشقيق
الأصغر لصالح المهدي الفنان المبدع ، وآزي سيصبح لاحقا عمدة مدينة سيدر رابيدس ،
ولما لم يكن أخطر مسبقا زوجته اللبنانية ،
فإنه مر على دكان يبيع الفراخ المحمرة واشترى واحدة وضعت في ما يشبه
الطربوش الورقي، ودفع فيها دولارا واحدا
ورحنا إلى البيت ، حيث قضينا أمسية لا تنسى مع آزي وزوجته وابنيه الصغيرين.
إذن وفي سنة
1966 كان الدينار الواحد يساوي 2.5 دولارا.
ولكن وفي سنة
1975 كنت وزوجتي في زيارة إلى باريس، وكانت العشر فرنكات الفرنسية لا تكاد تساوي
دينارا واحدا بل فقط 750 مليما.
في سنة 1994
كنت ضيفا على وزارة الخارجية الأمريكية ، فيما يسمى "الزائرون سنيور"،
وكانت صرفت لي منحة مجزية كما يتم مع الضيوف الأجانب الكبار المدعوين ، وكان علي
أن أدفع من تلك المنحة كل نفقاتي بما فيها
الاقامة والأكل والتنقل وشراء الكتب ،
وإذا كان الفندق محددا لضمان مستوى معين ، فإن المأكل والتنقل حر ، ولذلك ولتجنب
الأكل في مطعم الفندق المرتفع الثمن ، كنت أنزل إلى مكان قريب صباحا فأتناول فطورا صباحيا من كأس كبير بالحليب
والقهوة مع كرواسان بدولار واحد ، وكان يساوي بالتمام والكمال دينارا بلا زيادة أو
نقصان. وكثيرا ما كان يأتيني سائق السفارة ليأخذني لصديقي إسماعيل خليل ، السفير
الذي بعد أن أطرد شر طردة من منصب وزير الخارجية في 28 أوت 1990 ، تم اللجوء إليه
، لتسوية العلاقات مع الولايات المتحدة ، بعد أن ساءت على إثر الموقف الرسمي
التونسي الذي اتخذه بن علي بشأن أزمة اجتياح الكويت ، كما تم اللجوء إلى قاسم
بوسنينة لتسوية العلاقات مع المملكة العربية السعودية لنفس السبب.
وكنت أيامها
ألتقي كذلك بفيصل قويعة وأتسوق معه وسيعين لاحقا كاتب دولة للخارجية ، ويشغل حاليا
منصب السفير في واشنطن.
عندما أحدث
اليورو استبدلت الوحدة النقدية الجديدة في بداية سنوات الألفين بدينار و250 مليما.
من كل هذا
أستخلص أن الدينار فقد من قيمته بالنسبة للدولار في 1966 ، 75 في المائة وبالنسبة لسنة 1994 ، 60
في المائة من قيمته ،و بالنسبة لليورو عند إحداثه في بداية القرن الحالي 55 أو على الأصح 58 في المائة من قيمته.
معنى هذا
بالنسبة لأي عملة، التي هي رمز من رموز السيادة الوطنية للدولة ، انهيار فظيع ، وضربات متوالية للاقتصاد
الكلي ، وتهاو للطاقة الشرائية للفرد.
وإذ كان ذلك
مستمرا بمرور الزمن ، فإن الأمر احتد منذ 2011 ، وانتهت بذلك سنوات الرخاء النسبي
رغم تآكله التدريجي حتى قبل ذلك.
**
ماذا يعني
هذا بالنسبة للمجموعة الوطنية ، وماذا
يعني بالنسبة للأسرة وللفرد.
المفروض أن
انزلاق عملة ما يستهدف أمرين اثنين :
أولهما
دفع الصادرات
، بتهاود أثمان السلع والخدمات داخليا بما يجعلها أقدر على المنافسة في السوق
العالية ، فيقع الاقبال عليها ، ويكون هذا عادة عندما تكون السلع أو الخدمات مثل
السياحة متوفرة ، ولكن قدرتها التنافسية محدودة ، بحيث يعطيها صدمة شبه كهربائية ،
تجعل الاقبال عليها أكبر.
غير أن
الواقع هو أنه لا يتوفر لدى البلاد فائض إنتاجي يمكن أن يكون مدعاة لإقبال الموردين
الأجانب عليها ، أما بالنسبة للسياحة والتصدير على عين المكان ، فإنه وإضافة إلى
العجز الهيكلي للسياحة التونسية مقارنة بالمغرب ومصر وتركيا التي تشابه السياحة
التونسية ، فإن أزمة السياحة متأتية من أسباب سياسية مثل الارهاب ، وعدم وضوح الرؤية وضعف الاستقرار الداخلي وغياب الدولة ، بين إضرابات واعتصامات وقطع طرق
والمنع من العمل بما يفقد البلاد كل مصداقية.
وثانيهما
ردع التوريد بالنظر لأن انخفاض قيمة الدينار ،
تؤدي أوتوماتيكيا إلى ارتفاع أسعار المواد المستوردة ، إذ ينبغي توفير دينارات
أكثر لاستجلاب السلع والخدمات الواقع الحاجة إليها ، ولما كانت البلاد تأكل ما لا تنتج
أو ما ينبغي أن يعوض ما لا تنتج ، فإنه بدون سياسة حازمة لردع توريد الكماليات من
" القليبات" التركية إلى مواد التجميل إلى الملابس الفاخرة ، إلى
السيارات الفارهة أو حتى البسيطة .
لكن هل إن
للحكومة الحالية عزم على اتخاذ مثل هذه القرارات ، التي قد تغضب طبقة من المواطنين
همها التفاخر. أو تقلل من أرباح الفئات المقربة والتي تحرص سلطة ما بعد 2011 كما
التي كانت قبل 2011 ، أوتغضبها .
غير أن
الانزلاق المتواصل للدينار وخاصة منذ أيام
والواضح أنه سيستمر ، ليس له فقط ، أن يردع التوريد غير الضروري ، بل من شأنه أن
يرفع أسعار المواد المصنعة ونصف المصنعة التي تحتاجها الصناعة والسياحة والفلاحة
والتجارة وغيرها ، وهو ما يؤدي أوتوماتيكيا إلى ارتفاع أسعار المنتجات سواء المخصصة للسوق المحلية أو
للتصدير للسوق الخارجية ، بحيث يقع ضرب القدرة التنافسية خارجيا و يتم ارتفاع
الأسعار واستيراد التضخم داخليا.
هذا فضلا على
ارتفاع بلا ضوابط لحجم المديونية الخارجية ، المحررة إما باليورو أو الدولار
وبدرجة أقل باليان الياباني، وإذ تبقى تلك الديون على قيمتها الأصلية بعملتها ، فإن البلاد تحتاج إلى دينارات أكثر لسدادها ،
ومن هنا فهناك من يقول إن انزلاق الدينار في الأيام الأخيرة فضلا عما سيحدث في
الأيام والأسابيع المقبلة سيرفع حجم المديونية المرتفع أصلا والبالغ ما بين 60 و62
في المائة إلى ما بين 70 و75 في المائة من الناتج الداخلي الخام (40 في المائة سنة 2010)، وهي مديونية مطالب
بدفعها الفرد التونسي ، وستثقل كاهل الأجيال المقبلة ، وإذا كانت المديونية ضرورية
، فإنها إذا بلغت حجما عاليا تصبح عبئا على الاقتصاد الكلي وعلى الفرد حاضرا
ومستقبلا.
وإذا كان
الناتج الداخلي الخام للفرد ارتفع إلى 7
آلاف دينار ، فإنه بالدينار القار انخفض إلى ما هو أدنى مما كان عليه سنة 2010 ،
فيما وبالدولار وهي العملة المعتمدة دوليا لقياس قوة اقتصاد ما فإنه انهار انهيارا
كبيرا.
ولكن وعلى
المستقبل المنظور والقريب فإن كل الطبقات في المجتمع ستشعر بعبء الحياة كما لم
يسبق لها منذ الاستقلال ، وستولي وتودع لسنوات
قد تطول سهولة الحياة التي سبق أن عرفها التونسيون ، وبعد أن كان الفرد ينتظر
لأبنائه مستقبلا أفضل من الذي عاشه ، فإن صعوبة الحياة المقبلة ، ستجعله لا يفكر
في أبنائه ، بل في الكيفية التي سيواجه بها شظف العيش ، ومن تعود ركوب سيارته
الخاصة من أبناء الطبقة الوسطى الوسطية والدنيا فإن عليه أن يودع حلم السيارة
الخاصة ، وعليه أن يتعود على نقل عمومي هو في أسوإ حالاته ، حتى بالمقارنة مع
البلدان المجاورة ، وعليه أن يكتفي بما يذكر بحال الروسيين بعد ثورة 1989/1990
التي لم تنقذهم منها إلا اكتشافات بترولية ضخمة ، ليست متاحة لتونس ، لا بسبب شح
باطن أرضها فقط ، بل كذلك بسبب سياسات معينة واتهامات خطيرة بالنهب ، ليس من شأنها أن تشجع الشركات المنقبة الدولية
للقدوم إلى بلادنا أو الاستثمار فيها وتحقيق اكتشافات بترولية أو غازية قد تكون
كامنة ، ولعل المطمح الوحيد للتونسي اليوم
هو الهروب من "جحيم " هذه البلاد ، للاسترزاق في دنيا الله الواسعة ،
سواء بالطرق القانونية لمن يحملون كفاءات مطلوبة ، أو باعتماد الهجرة غير
القانونية.
هذا فضلا عن
ترك الجانب الأهم والمتمثل في أن التونسي ليس من الطبقة الدنيا بل حتى من الطبقة
الوسطى بدرجاتها الثلاثة وغالبها من الأجراء ، سيرى مستوى حياته ينحط ، وخاصة من
الأبناء العاطلين ومن متقاعدي القطاع الخاص.
**
كيف وصلنا
إلى هذه الحال وهل هذا هو قدرنا ؟
الثورة أو
الانتفاضة ليست هي السبب ، فلقد كانت فرصة رغم أنها لم تكن تحمل السمات التقليدية
لطبيعة الثورات من فكر مسبق ومن قيادة مهيأة ، فالثورة قدمت للشعب التونسي مقومات
الحرية وإقرار الحقوق الفردية والعامة للإنسان ، ولكن التونسي عموما وطبقته
السياسية الحاكمة لم تعرف كيف تتصرف في منة صنعها الشعب ، بقطع النظر عن الأسباب
والظروف ، وما إذا كانت أيد خارجية وراءها
أو لا .
فالحكومة
التي تولت السلطة بداية في 2012 كان عليها أن تصارح الشعب بحقيقة الأوضاع ، وتأخذ
الثور من قرونه وتقدم على إصلاحات يتطلبها كل تغيير ثوري ، ولكنها فوتت على البلاد
فرصتها ، ما اضطر الرجل الوحيد الذي كان له تشخيص وحل واضح أي وزير المالية حسين
الديماسي للاستقالة بعد 6 أشهر من تشكيل
حكومة الترويكا ( النهضة)، فتابعت الحكومات الموالية نفس النهج اللامسؤول محاولة
ربح الوقت ، والتقرب من عواطف الناس ، عبر زيادات سخية في الأجور ، وإثقال كاهل
الإدارة العمومية بالمزيد من الموظفين والمسخدمين فوق الحاجة والطاقة ، ووصول العدوى للقطاع الخاص حيث حلت قلة الانضباط
محل الحزم في التسيير ،وترك مختلف الإختلالات في التوازنات الداخلية والخارجية تحل
محل التصريف السليم للعوامل الاقتصادية التي تتسم بعناد علمي ، ترك جانبا ، فضلا
عن التسيب الكامل ، فانهار الانتاج ، وتراجعت الانتاجية ، وزاد الاستهلاك بدون
مقابل إنتاجي ، وتم اللجوء إلى مديونية عالية ، ليس وراءها مشروعات ذات مردودية ،
وما زالت السلطات القائمة تواصل إطراء العواطف الشعبية التي ارتفع مقدار مطلبيتها
بقدر تراجع ثروة البلاد ، وأمام كل هذه العوامل مجتمعة ، كان لا بد للعملة الوطنية
أن تتراجع قيمتها الابرائية ، مضافا إلى ذلك رفع مقدار السيولة المالية دون أي
مقابل إنتاجي بل فقط لعدم اختناق سوق ، ما زالت سائرة على نفس طريق سنوات الرخاء
النسبي .
ما هو الحل ،
في مثل هذه الظروف ، التي لا تعد بدعة ، بل مرت بها شعوب كثيرة قبل أن تسترجع
وعيها ، وتقدم على إصلاحات موجعة ، كانت تكون أقل وجيعة لو اتخذت منذ 2012 ،
ولكننا اليون وفي سنة 2017 ، في مواجهة الكارثة التي لم يقع تفاديها في الوقت
المناسب.
السؤال : هل
بالإمكان القيام بإصلاحات مؤلمة اليوم ، وقد تعود الشعب على التراخي والإرتخاء.
هذه الحكومة
أو حكومة غيرها ـ ليس مهما ـ برجال ذوي عزيمة ، يمكنهم أن يقوموا ما اعوج خلال
سنوات قليلة ، ولكن بقرارات حازمة وشعب واع ، ومنظمات نقابية مسؤولة.
لقد عشنا 5 سنوات
أو ست ، فوق مستوى إمكانياتنا الفعلية ، وها نحن ندفع الثمن رغم إرادتنا ، نتيجة
سوء تصرف حكومات لا مسؤولة عرفناها بعد الثورة .
تحرير صرف
الدينار كان مقررا منذ 2008 لسنة 2014 ، ولكن لم يكن ذلك ليحصل تحت ضغط الأحداث
والإفلاس ، وبتضحيات كبيرة من الشعب ، ولكن غياب البصيرة ، وشراء الوقت ، وانعدام
الشجاعة هو الذي جعل البلاد تقدم على هذه الخطوة ليس بإرادتها وبثمن باهظ سيدفعه
المواطن .
ليست الثورة
هي المسؤولة ، ولكن الحكام الذين جاؤوا بعدها هم الذين وضعوا البلاد في هذه الحال
السيئة.