نقابيات
|
يكتبها عبد اللطيف الفراتي
الغرق
قال لي تعقيبا على الإضرابات الحاصلة
بدون هوادة هذه الأيام، لقد عشت مثيلا لها بعد الحرب العالمية الثانية وحتى أواخر
الخمسينات في فرنسا عندما كنت طالبا في الطب، ثم طبيبا في المستشفيات العمومية،
بعد الحرب كان الحزب الشيوعي الفرنسي يحتل مكانة أولى في الانتخابات بما بين 30
و35 في المائة من الأصوات ، ولكن مرتبته الأولى لم تمكنه من الحصول على الحكم
وتحويل فرنسا إلى ديمقراطية شعبية على غرار كل البلدان التي استولى عليها الاتحاد
السوفياتي في أوروبا الشرقية، فقد كانت كل الأحزاب تشكل في مواجهة الحزب الشيوعي
الفرنسي أقوى الأحزاب الشيوعية في أوروبا ائتلافا يمنع الشيوعيين من الحكم ، وفي
ظل الجمهورية الرابعة كان الائتلاف دائما هشا ولهذا تقوم الحكومات وتسقط بسبب وبلا
سبب.
خلال تلك الفترة من تاريخ فرنسا كانت
نقابة الـ س ج ت ، الملتصقة بالحزب الشيوعي تحتكر أو تكاد الحياة النقابية ، ولما
كانت تأتمر بأوامر الكاتب العام للحزب الشيوعي ، فإنها لم تكن تتوانى عن شن الإضرابات
المتواصلة ، حتى تضع البلاد على ركبتيها فتلجأ إلى الشيوعيين ليأتوا للحكم ويطبقوا
سياساتهم.
غير أن أحزاب اليسار غير الشيوعي
والوسط واليمين الفرنسي استطاعوا أن يمنعوا الشيوعيين من الوصول للسلطة ،وتحملوا
فوق الطاقة مسلسل الإضرابات على حد قول الطبيب الشيخ الذي استقر بتونس بعد حياة
نشيطة كاملة في فرنسا.
ولكن هذا الطبيب الشيخ يعزو استطاعة
فرنسا مقاومة مسلسل الإضرابات بثلاثة عناصر متضافرة :
أولا : مشروع مارشال بما ضخه من أموال
واستثمارات كثيفة.
ثانيا : تهاود أسعار الخامات على حساب
المستعمرات التي كانت تقدم منتجاتها غصبا دون حتى سعر الكلفة.
ثالثا : مقاومة شعبية كبيرة للظاهرة الاضرابية
والوقوف ضدها ، وتحمل تبعاتها .
**
هل هذا ما يحدث في تونس اليوم ؟، وهل أن قوى سياسية معينة تقف وراء ظاهرة
"ازدهار" حالة الإضرابات
وتعددها ؟، والوصول إلى مطالبات غير معقولة ، في ظل تدني فعل الإنتاج والإنتاجية ،
ووجود مخزون تعطل وبطالة يصل لأرقام قصوى لم تصلها البلاد من قبل.
وبعكس فرنسا بعيد الحرب العالمية
الثانية ، فإن حنفية أموال مشروع مثل مشروع مارشال ، لم تغمر البلاد ، أما الخامات
ومنها البترول والمواد نصف المصنعة فإن تونس تستوردها بأغلى الأسعار ، وهي أسعار
ترتفع باستمرار ما دامت قيمة الدينار تتقهقر يوما بعد يوم، كما إن الظاهرة التي
شهدتها فرنسا من مقاومة ظاهرة الإضراب لم تعم بلادنا ، وفي أقصى الحالات فإن
المواطن يتذمر من نتائج الإضرابات على حياته ، ولكنه في اليوم الموالي يضرب مطالبا
غالبا بزيادات في الأجور تزيد البلد غرقا فوق غرقه ، وتبعد اليوم الذي تستقر فيه
الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
وما دام الإتحاد العام التونسي للشغل
يحتكر الساحة النقابية ، بإرادة الحكومة ، وإرادة وزارة الشؤون الاجتماعية ووراء
وزيرها محمد الناصر رئيس البرلمان، فإن الإتحاد يستعمل الإضراب كسلاح سياسي ،
لنقلها بصراحة ، ولكن هذا السلاح جاء اليوم من يزايد عليه ، ويدفعه للأقصى ، وهو
ما يفسر الإضرابات المسماة بالعشوائية ، وهل بقيت في تونس إضرابات مقننة ، في بلد
يشكو الإفلاس ، وإذ يفوق حجم التأجير في الوظيفة العمومية 11 مليار دينار أي قرابة
40 في المائة من حجم الميزانية العامة للدولة مع ما تأكله مسألة تسديد الديون وما
يستهلكه دعم السلع المسماة أساسية ، فكم يبقى للاستثمار العمومي الذي هو اليوم في
أدنى مستوياته ، بينما الاستثمار الخاص والاستثمار الأجنبي المباشر معطلا ما دامت
الحياة الاجتماعية والإضرابات لا تشجع مطلقا على انطلاقتهما.
إن هناك ولا شك من يتحمل اليوم مسؤولية لا الوضع الحالي فقط بل وأيضا الوضع
المتوقع من الوصول إلى حال من التدهور.
ولنقل أخيرا وليس آخرا ، إن نقاباتنا
لا تتمتع لا بنظرة إستشرافية ، ولا خاصة بثقافة الاقتصاد الكلي ، ولعل عودة رجل
مثل حسين الديماسي كمستشار للإتحاد العام التونسي للشغل ، وهو المنصب الذي احتله
قبلا يمكن أن يعيد بعض التوازن.
وإذ تقرر الحكومة أخيرا وبعد ضياع وقت
ثمين وأموال طائلة ،عدم دفع أجور أيام العمل الضائعة في الاضربات ، فهي خطوة على
الطريق الصحيح ، إضافة إلى ضرورة تكثيف
اللجوء إلى التسخير للمصلحة العامة.
النظرة العامة لا ينبغي أن تكون فئوية
، بل نظرة أوسع تضع في الحسبان أولا مصلحة البلاد ،، وكفى كفى تنازلات واستجابات
سوف تنتهي بنا جميعا إلى هاوية سحيقة بلا قعر ولا قرار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق