سانحة
|
يكتبها عبد
اللطيف الفراتي
نسمة الوطنية
.. طبيعية .. بعد نسمة الحرية ؟؟
تونس /
الصواب / 15/05/2015
هبت نسمة
منعشة من الوطنية الصادقة، قبل أيام في فضاء "سرايا " السياحي الترفيهي الثقافي الاحتفالي في القيروان
، كان من حسن حظي أن حضرت فعالياتها الجميلة.
كانت وراء
الحفل السيدة ذهبية بوزيان الجويني ، مديرة اثنين من مبيتات الطالبات أحدهما هو
مبيت الفتيات بن رشد بفرعيه الأول في لافايات وراء الإذاعة الوطنية والثاني هو المنجي
سليم بالحفصية.
ويبدو أن
أجواء الإذاعة وما حولها من مثقفين وفنانين يجلسون في المقاهي التي حولها ،
ويتطارحون ما في خيالهم من فنون مستظرفة، كما كانت الثقافة تسمى قبل عقود ، قد
أصاب بالعدوى هذه الديار التي تعج بطالبات لا يطلبن إلا الإحاطة لتتفتق مواهبهن،
أو تلك هي الفكرة الأولى التي سادت عندي ، قبل أن أغير رأيي، وأنتهي إلى أن ما عايشته
طيلة يوم في ذلك الفضاء الثقافي الاحتفالي
في ضواحي القيروان ، هو نتاج جهد امرأة مثقفة محاطة بمجموعة من السيدات اللائي آمن
بأن الثقافة قاسم أعظم مشترك ، لا ينتظر إلا من ينبش في الأعماق ، لتتمظهر في
الأشكال الجمالية المختلفة ، من ديكور
وعزف وغناء ومسرح وغيرها من الأغراض الثقافية.
كانت المناسبة هي تكريم ثلة من "الذوات
" التونسية ممن يعتقد أنه قد طواهم الزمن ، ونسيهم الحاضر ، بعد أن كانوا
يؤثثون فترة من حياتنا العامة في مجالات الصحافة والثقافة والفن، وكلمة الذوات هي
من نبش الأستاذة ذهبية بوزيان الجويني ، المرأة المثقفة حتى النخاع ، والتي لم تكن
دراستها النظامية في كلية العلوم القانونية بأريانة تعدها لهذا الدور، لولا إرادة
صماء ، وحس مرهف .
كان يمكن أن تتولى القضاء ، أو تدخل عالم
المحاماة ، أو يركنها الزمن في إدارة من الإدارات التي تعج بأصحاب الشهائد القانونية، ولكنها فضلت أن
تحيط بالشباب ، والبنات بالذات ، في تلك السن الغضة ، التي تتشكل فيها الشخصية ،
وتنحت ، فدخلت لمهنة إدارة المبيتات الجامعية.
من هنا ارتأت
ذهبية ، وهي شابة تتقد حيوية وعزما وحزما ،
أن تجعل من هذه الدار أو من هاتين
الدارين في لافايات والحفصية وهي التي
تديرهما باقتدار ، مرتعا لإبراز القدرات الفنية ، باستعمال الوقت استعمالا مفيدا
بدل الهدر، وقد اكتشفنا فيهما أي الدارين جملة من الشابات في لافايات
والحفصية ، وجدن الإحاطة لتتفتق مواهبهن
فتتناولن مختلف الفنون بحذق يكاد يصل إلى الحرفية العالية، فشاهدنا وسمعنا بمناسبة تكريم عدد من "الذوات"، الفن الراقي من كلاسيكي وعصري ومن مسرح وتمثيل
، ومن اسكتشات طريفة، وعروض أزياء تشهد على عمق وجمالية الحضارة التونسية ، من
مجاهل التاريخ حتى اليوم عبر إبداعات فذة.
وعلى أهمية
ما تم تقديمه من فقرات ، فإن ما بعث الاعتزاز في نفسي ونفوس العشرات إن لم أقل
المئات، هو هذه الروح الوطنية الفياضة ، المنبعثة من طيات كل ما تم تقديمه غناء
ومسرحا وعروضا ، وعدا الجمالية والحرفية ، فإنها ، ـ أي تلك الفقرات ـ كانت تعبق بروح من الوطنية
الفياضة والفواحة ، تسعى وبنجاح من وجهة
نظري إلى ترسيخ روح الوطنية في شبابنا ،، فمع العلم بمختلف اختصاصاته ، ومع اكتساب الروح
النقدية ، التي بدونها لا يمكن لمجتمع أن يتمثل لا حاضره ، ولا مستقبله ، أو أن
يستوعبه ويسهم في دفعه ، راسخا في قيمه
المتجذرة في تاريخه ، والمنفتحة على كونية لا يمكن العيش اليوم خارج معاييرها
العالمية، التي تجعلنا منفتحين على الحضارة الإنسانية بكل مقوماتها.
كانت تلك
ساعات مضيئة ، وأنا في خريف العمر حتى لا أقول أكثر، أعادت إلى شيئا من الأمل في
إمكانية أن يعود المجتمع المدني للإبداع ، الذي انطفأت جذوته من الستينيات ، عندما
استعاضت الدولة عن الجهد الأهلي المتمثل في جمعيات كانت تبذل للثقافة والعمل
الخيري جهدا كبيرا ، بلجان ثقافية حكومية
قتلت المبادرة ، وأربكت المجتمع ، وأرادت أن تجعل الثقافة "الملتزمة "
في قوالب ، لا تحتملها الثقافة ولا تتأقلم معها .
فحتى أواخر الخمسينات وبداية الستينيات كنت في صفاقس
وأنا في سن الطفولة وأول الشباب أمارس
نشاطا ثقافيا عبر جمعية توفر لنا مكتبة ثرية جدا بأكبر المؤلفات ، ونشاطا مسرحيا
وغنائيا وموسيقيا ورياضيا ، وفي عالم الرحلات ، كل ذلك في قوالب كانت دوما مغلفة
بروح عالية من الوطنية وحب الوطن عبر حذق
الألإناشيد الوطنية الحماسية ، والانفتاح على العوالم الخارجية ، فكنا نحتفل في 2
مارس من كل عام بعيد العروبة ، الذي يصادف يوم 2 مارس وهو عيد تأسيس الجامعة
العربية، وفي ذلك الإطار أخذتنا جمعية الثقافة والتعاون المدرسي إلى المهدية وسوسة
والعاصمة تونس وعين دراهم مرورا بعدد من المدن الأثرية التي ترسخ فينا حب الوطن وعظمة عطاء الأجيال المتلاحقة ، وأذكر دوما سي
محمد الفريخة أمين المكتبة الذي كان يؤطر
قراءاتنا اليومية عبر مطالعة قصص وروايات بالعربية والفرنسية ويوفر لنا مجلة
"سندباد" المصرية للطفولة، ،
كانت كل تلك المطالعات تدفع بخيالنا إلى
عوالم واسعة من المعرفة ومزيد الفضول.
وفي ما عدا
تلك الجمعية التي كان يؤمها المدرسيون خاصة وينشطون فيها ، كانت هناك جمعية النادي
الصفاقسي الزيتوني التي لم يكن نشاطها يقل عن جمعية الثقافة، وكان لها فرع في تونس
ترأسه في وقت من الأوقات الصحفي الكبير أحمد العموري ، الذي سبق أن أطرد من
التعليم العمومي في سنة 1952، بعد أن قاد مظاهرة في صفاقس ضد الاستعمار، فاستكمل
تعليمه في جامع الزيتونة المعمور الذي لم يكن يغلق أبوابه أمام الوطنيين ، وكانت
هناك جمعية اللخمية التي أذكر أنه كان يقوم عليها المربي الكبير يوسف خماخم ،
والتي كانت تتوفر على مكتبة ضخمة وقاعة مطالعة كان يلجأ لها التلاميذ والطلبة
لمراجعة دروسهم ، فضلا عن المطالعات المفيدة، وأيضا جمعية الموسيقى العصرية ، التي
أدخلت للمدينة الموسيقى العصرية والنحاسية منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية ،
ودربتنا على تذوق الموسيقى الكلاسيكية عدا
تعليمنا السولفاج والبعض منا العزف، وغيرها من الجمعيات التي لا يتسع المقام
لذكرها جميعا، وخاصة وأن ثلاثة أو أربع جمعيات مسرحيات تنتج سنويا أعداد من المسرحيات التونسية أو
المقتبسة..
ولكن وبقرار
سياسي ، تم تأميم الثقافة ، كما تم تعميم التعاضد ، فسحب الأمر من أيدي
"الهواة " الذين كان عملهم يصل إلى درجة الاحتراف ، وانطفأت جذوة الحماس
، وذوى وذبل العطاء الثقافي التلقائي في
ظل محاولة الدولة السيطرة على كل شيء ، ففشلت وتراجعت الثقافة التي باتت معلبة بلا
روح.
من هنا فإن
ما أقدمت عليه مبيتات بن رشد/ المنجي سليم
في العاصمة ، لعله يعيد للثقافة تألقها الماضي ، ويعطيها أبعادها التطوعية ، ويمكن
أجيال الشباب ، لا فقط من نشاط ثقافي ضروري لاستكمال تكوينه ، ولكن لمزيد غرسه في
محيطه وإحياء وطنيته التي كادت أن تصبح مفقودة ، وإعادة الروح الوطنية إلى نفسه ،
حتى يشعر بأنه ينتسب إلى وطن ، وطن يستحق أن نفخر به ، ويستحق منا جميعا أن نبذل
الوقت والجهد في سبيله ، في وقت نجد فيه آخرين يبذلون الحياة في سبيل الحفاظ عليه
، في سلامته ونمط عيشه وحيويته.
ذلك ما قرأته
من يوم جميل قضيته في القيروان ، صحيح أنه تم تكريم لي وآخرون فيه ، واشكر موصول
لذلك ، ولكن بالخصوص أعطاني شحنة من أمل للمستقبل ، لإعادة روح الوطنية الدافقة ،
مع الحرية الوافرة والوارفة ظلالها.
فمتى ننسج
جميعا على هذه المبادرة ، ومتى تعود جمعيات الثقافة واللخمية والموسيقى
العصرية والاتحاد الصفاقسي الزيتوني
والهلال التمثيلي والتقدم المسرحي والنجم المسرحي وغيرها .
ثم أليس هناك اليوم طلائع من الشباب يعيدون
الحياة الأهلية إلى نشاط ثقافي اندثر بإرادة من الدولة ، وكانت تلك خسارة كبرى في
حجم الكارثة ، وجاءت هذه المبادرة لتعيد الأمل في عودة العمل الثقافي الأهلي الذي
كان منتشرا في كل الربوع ، وتم شطبه تماما ، فأجدبت الثقافة التي هي مقوم من أهم
مقومات الحياة.
كلمة أخيرة :
تحية تقدير عميق إلى شابات مبيت بن رشد والمنجي سليم ، فلولا حماسهن ولولا
عطاؤهن ما كنا نعيش تلك اللحظات السعيدة ، ولا يراودنا الأمل في أن تعود الثقافة
كما عادت في المبيتين إلى أهلها الذين هم أولى بان يقفوا حياتهم عليها من مدخل
الهواية، التي يمكن أن تؤدي إلى الاحتراف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق